هل يصلح الفقهاء ما أفسدته الطائفية؟
على رغم مما وصفت به لقاءات التقريب بين المذاهب في العقود الماضية من لقاءات مجاملاتية، يتعاقب فيها الأطراف على رصف كلمات المديح للوحدة المنشودة، إلا انها اسهمت وبشكل ما في تهدئة العنفوان الطائفي الذي خلفته الحروب – باسم الطائفية – الى حد ما، حتى انكشفت الحرب الاميركية في العراق عن واحدة من أسوأ الحروب الطائفية في المنطقة وأجلاها، فنبشت الاوجاع الطائفية التي ما فتئت الأمة تتناسالها، وزاد الطين بلة ما اسفرت عنه الساحة اللبنانية من سجال اقليمي طائفي، حتى غدت الوقفة ضد هذا الوباء حاجة ملحة، لعل الفقهاء يصلحون ما افسده السياسيون.
في لقاء القرضاوي - رفسنجاني، وهما اثنان من اهم علماء الشيعة والسنّة، كان المأمول كبيراً. وبالذات السعي الى وقف حمام الدم في العراق، ولكن المفاجأة كانت كمفاجآت السياسيين لنا، عندما يلتقون بالود والقبل، ثم يغني كل موّاله.
رفسنجاني لم يكن ذاك الفقيه الذي يعالج قضية، ولكن كان رجل الدولة الذي يحفظ كلمته من ابعادها السياسية، ويطلق العموميات الديبلوماسية التي تتسع لها كل الاديان فضلاً عن المذهبين الشيعي والسني، لذا كان التفاوت في لغة الخطاب، ومعالجة الموضوع بارزاً جداً، وكأن كلاً يتكلم عن موضوعه الخاص، ولعل تلك الديبلوماسية دفعت القرضاوي الى تجاوز العديد من النقاط التي اثارها بجرأة شديدة في مؤتمر الدوحة.
رفسنجاني اراد اختصار الموضوع في تأكيد فكرة التوحد – التي لم تثمر ولم تغنِ من فتنة طوال السنوات الماضية – اذ طالما كانت جواباً ديبلوماسياً عن مضي كل في طريقه، ومنهجه، في حين كان طرح القرضاوي منصباً على الخلافات التي تثير المشاعر بين المذهبين (شتم الصحابة، التقية...) بغية معرفة الموقف الرسمي لعلماء الشيعة فيها، ولكن الإجابات كانت ضبابية ومختصرة، وكانت كلمة (علينا تجنب ما يفرح أميركا بخلافنا) هي البديل لأي سؤال لا يحبذ الجواب عليه، كما حملت كلمات رفسنجاني اشارات الى أحقية ما يفعله الشيعة في العراق من خلال التلميح الى البادئ في عملية التطهير الطائفي في العراق، او تصرفات الحكومات العربية (السنية) سابقاً، وكأنها الحكومات التي حملت مشعل السنة. ولم تضطهدم قبل الشيعة.
اعتقد بأنه من اهم الامور في هذه الحلقة التركيز على الاحتلال الاميركي وتوجيه البوصلة له أينما كان موقعه، فأميركا لها الدور الفاعل في إثارة الفتنة بين المذاهب، وقد تجلى ذلك من خلال إيفادها زلماي خليل زاد – المتخصص في الشؤون الاسلامية – والذي أوصى بإذكاء روح الخلافات المذهبية التي يعج بها التاريخ الاسلامي، ورفعها الى مستوى الحرب الطائفية، مما يعني غض الطرف عسكرياً عن الاحتلال الاميركي، وهذا ما سربته اميركا واسرائيل الى لبنان ومن ثم الى فلسطين، لذا اكد الشيخان هذا الامر وذلك حتى لا يتم نسيان القضية المشتركة بين كل الفرقاء العراقيين، وصرح القرضاوي بأن أي اعتداء على ايران هو اعتداء على الامة الاسلامية، يدفعنا للوقوف صفاً واحداً معها، من دون ان ترهبنا تخويفات اميركا من الطاقة النووية الايرانية.
الخلاف بين المذهبين ليس طائفياً ولا سياسياً – كما قال بعض المحللين لهذا اللقاء – الخلاف من وجهة نظري عربي - فارسي على زعامة العالم الاسلامي. فكم القضايا المطروحة بين الطرفين ومبررات الخلاف تجدها اقل من ان تحدث هذا الشرخ لمئات السنين (حب آل البيت، او شتم الصحابة، وعلي والإمامة...) فهي قضايا قد عفّى عليها الزمن، ولا فائدة من نقاشها او الاختلاف عليها، ولكن ثمة شيئاً اكبر من ذلك يحتل مركز الصدارة في الخلاف بين الفريقين، وكثيراً ما كانت تنتهي اللقاءات بين الفريقين، بتوافق الطرفين على معظم القضايا (فالكل يحب الصحابة، والكل لا يبشر بمذهبه...) ثم لا يلبث الخلاف ان يعود، وكأن كلاً لا يريد ان يفصح حقيقة عما يريده – لغاية في نصف يعقوب -.
المهم من هذه اللقاءات ان يكون رأي المرجعيات مسموعاً اما إن كانت اللقاءات من قبيل الجدل الفقهي، بعيدة من التأثير في ارض الواقع فلا اظن ان فائدة ما سيخرج منها هذا اللقاء، وبالتالي يجب البحث عن وسائل اكثر فاعلية في حل الخلاف المذهبي، ولذلك كرر القرضاوي فكرة الخروج بشيء من هذا اللقاء.
الموضوع اكبر من ان يحل بلقاء تلفزيوني واحد بل يحتاج الى جلسات كثيرة لتزيل عن الكاهل الحمل التاريخي الطائفي لهذا الموضوع، ولكنه خطوة جيدة ومهمة في طريق المزيد من اللقاءات التالية التي يجب ان تتسم بالشفافية، والموضوعية، والرغبة في الحل، فالأمور اليوم بين المذهبين وصلت الى المحك، فإما امة اسلامية او طائفتان على مدى الايام، وكل لقاء لا يحرز تقدماً سيكون خطوة عكسية وسيعزز الخلاف، ويجب على الفريقين تحري مكامن الخلاف الحقيقية بغية حلها. فالخلافات ليست فقهية حتى تحل فقهياً ولكنها أبعد من ذلك بكثير.
وائل حمدوش
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد