هل نظرة المواطنين الخليجيين لإيران هي ذاتها نظرة حكامهم لها ؟
مجلة “فورين أفيرز” الأميركية تنشر استطلاعاً للرأي أجري في دول الخليج ويظهر تفاوتاً في تحديد التهديدات لأمن واستقرار المنطقة بين المواطنين العاديين وحكوماتهم.
في أيار الماضي وفي مقابلة على التلفزيون الرسمي امتدت لساعة من الوقت أعلن ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي محمد بن سلمان أن الحوار مع إيران “مستحيل”. حذر بن سلمان من أنه لا يمكن الوثوق بالجمهورية الشيعية لكون سياستها الخارجية قائمة على هدف تحويل العالم الإسلامي برمته والسيطرة عليه.
بالرغم من أن الخطاب الناري للأمير بدّد الآمال بإمكانية توصل الخصمين الجيوسياسيين إلى تسوية لخلافاتهما في سوريا واليمن وأماكن أخرى إلا أنه لم يكن مفاجئاً بكل تأكيد.
باستثناء سلطنة عمان وبدرجة أقل الكويت وقطر لطالما اتهمت دول الخليج العربية طهران بالتلاعب وتسليح وتحريض المواطنين الشيعة من العرب داخل وخارج مناطق الصراعات. في النتيجة تنظر غالبية حكومات الخليج إلى إيران على أنها التهديد الأكبر لأمنها القومي.
بيد أن موافقة مواطني الخليج على هذه النظرة تبدو أقل وضوحاً. درس الباحثون بكثافة رؤية النخبة للتهديدات في الشرق الأوسط والمناطق الخليجية لكن قليلة هي المعلومات حول رؤية الخليجيين العرب العاديين لإيران وإلى أي درجة تعكس رؤيتهم الخطاب الداخلي والخارجي الذي تعبّر عنه حكوماتهم.
إن استطلاع الرأي الموجود عن منطقة الخليج يعود إلى ما بعد الربيع العربي عام 2011 وهو يشير إلى أن معظم العرب يملكون نظرة سلبية لإيران على الصعيد الثقافي والسياسي وإلى أن هذه الآراء تعتمد إلى حدّ كبير على الانتماءات الطائفية للأفراد بحيث إن لدى الشيعة آراء أكثر إيجابية تجاه إيران. لكن يجب التفريق بين كراهية إيران وسياساتها والخوف منها كمعتدٍ سياسي وعسكري.
علاوة على ذلك فإن إيران وما يشتبه أنه برنامج أسلحة نووية هي اليوم واحدة من بين العديد من التهديدات للأمن القومي الخليجي: كما يبرز أيضاً صعود داعش وغيره من المنظمات الإرهابية التي يهيمن عليها السنة؛ والركود الاقتصادي بسبب انخفاض أسعار النفط؛ ومن وجهة نظر البعض، استمرار التدخل الأجنبي من قبل الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى.
لسدّ هذا النقص في المعلومات أجرينا أنا وزملاء لي في جامعة ميشيغين استطلاعاً للرأي في خمسة من دول مجلس التعاون الخليجي الستة: البحرين والكويت وسلطنة عمان وقطر والسعودية. (الإمارات العربية رفضت المشاركة في الدراسة). بين 2016 و2017 أجرينا مقابلات مباشرة مع 4 آلاف مواطن خليجي من خلال عينات كبيرة وذات تمثيل على المستوى الوطني من الخليجيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 عاماً وما فوق.
من بين أمور أخرى طلب من المستطلعين تحديد التهديد الأكبر لأمن واستقرار دول الخليج من بين الخيارات التالية: انتشار التنظيمات الإرهابية مثل داعش والقاعدة، البرنامج النووي الإيراني، المشاكل الاقتصادية بسبب انخفاض أسعار النفط وتدخل الدول الغربية. (ترتيب الخيارات جاء عشوائياً لتجنب الانحياز في النتائج). كذلك شمل الاستطلاع اسئلة حول توجهاتهم السياسية عموماً ومواقفهم تجاه مجلس التعاون الخليجي كمؤسسة.
وكشفت نتائج الاستطلاع عن استنتاجين هامين ومفاجئين. الأول أنه بالرغم من أوجه الشبه الكبيرة بين الدول الخليجية إلا أن مواطنيها لا يختلفون فقط في توجهاتهم تجاه التحديات الأمنية الفردية بل أيضاً هناك اختلافات في ما بينهم لجهة الشعور بالأمن وانعدامه. في سلطنة عمان على سبيل المثال قال ما يقارب نصف المستطلعين 46% أن لا بلد يشكل تهديداً للاستقرار والأمن مقابل 22% في قطر و2% في الكويت.
الأمر الثاني والأكثر إثارة للانتباه هو تصور مواطني الخليج للتهديد الذي يشكله برنامج إيران النووي.
حين شمل السؤال عن الأمن الخارجي التهديدات غير التقليدية من الارهاب العابر للقارات إلى التدخل الغربي إلى الازمة الاقتصادية غابت إيران تقريباً عن الصورة. باستثناء مواطني البحرين، أجابت غالبية المستطلعين في كل دولة أن انتشار التنظيمات الإرهابية مثل داعش والقاعدة هو التحدي الأمني الأكبر بالنسبة للخليج مع نسب متفاوتة بين بلد وآخر تراوحت بين 53% في عمان و68% في الكويت (التي كانت ضحية تفجير انتحاري لمسجد شيعي قبل أشهر عديدة من الاستطلاع).
وحلّت إيران والبرنامج النووي في المرتبة الثانية في قطر والكويت بفارق شاسع بنسبة 23% في الأولى و21% في الثانية. أما في سلطنة عمان فحلّت إيران في المرتبة الثالثة بنسبة 15% بعد القضايا الاقتصادية الناجمة عن انهيار النفط. حتى في السعودية بدت المخاوف تجاه إيران ثانوية مقارنة مع الإرهاب بنسبة 25% فقط من السعوديين.
وفي مملكة البحرين الصغيرة ذات الغالبية الشيعية حيث تصل المخاوف الرسمية من التهديد الوجودي لإيران إلى أقصى درجة من الهستيريا (ويعود ذلك جزئياً إلى الانتفاضة التي قادها الشيعة في البلاد عام 2011) واحد من أصل كل عشرين مواطناً يعتبر البرنامج النووي الإيراني أكبر تهديد لأمن واستقرار الخليج. بدلاً من ذلك فإن الشاغل الأمني الأكثر انتشاراً بين البحرينيين هو تدخل الغرب أو بالأخرى تدخل الولايات المتحدة في شؤون مجلس التعاون الخليجي. ويرى أنصار المعارضة الشيعية أن الولايات المتحدة تمثل عاملاً محورياً في قمع الدولة بسبب دعمها الدبلوماسي ومبيعات الأسلحة للحكومة البحرينية.
في الوقت نفسه عبّر الكثير من الموالين السنة عن قناعتهم بأن واشنطن شكلت تحالفاً مزدوجاً مع إيران ضدّ البحرين وغيرها من الدول العربية السنية.
ولم يذكر التدخل الغربي بكونه مشكلة أمنية أساسية في الكويت وعمان وقطر والسعودية. بيد أن نتائج الاستطلاع كشفت عن تنافر بين الآراء السلبية المنتشرة تجاه إيران في الخليج وتحديد التنظيمات السلفية المتطرفة كأول تهديد أمني، كون هذه الجماعات هي التي تدافع عن السنة ضدّ إيران من بين أمور أخرى.
إن هذا التناقض يسلط الضوء على مجموعة معقدة من الهويات والولاءات التي يجبر المسلمون العاديون في العالم العربي على التأرجح بينها مع وجود خيط رفيع جداً للتمييز بين من يحمي ومن يشكل تهديداً.
اللافت أن النتائج تشير إلى أن مواطني الخليج لم ينساقوا وراء الخطاب السياسي الذي روّجت له الحكومات الخليجية منذ الانتفاضات العربية عام 2011 بأن إيران هي المصدر الرئيسي لمشاكلهم المحلية.
في الواقع منذ ذلك الحين شكلت الاتهامات لإيران بالتدخل في شؤون مجلس التعاون الخليجي الداخلية النغمة الرئيسية في المنطقة. ووراء هذه التهمة تكمن رسالة مبهمة بأن التظاهرات في البحرين والسعودية وأماكن أخرى لم تكن تحركات تنبع من مظالم ومطالب مشروعة بل مؤامرات من صنع مواطنين يعملون خدمة لمصالح خارجية سواء بعلمهم أو نتيجة تعرضهم للخداع.
ويبدو أنه فيما كان الخطاب يركز على قوى خفية أو غير ملموسة للتوسع الإيراني والنفوذ الشيعي كان المواطنون العاديون أكثر اهتماماً بالجوانب الملموسة لحياتهم اليومية بما في ذلك التهديد الحقيقي للإرهاب في بعض الدول وعدم الأمان الاقتصادي نتيجة تقلّص شبكة الأمان الاجتماعي، ووجود القوات العسكرية الغربية.
وقد اعتمدت حكومات الخليج منطقاً مشابهاً لتبرير العوائق الاقتصادية التي تؤثر على مجتمعاتها نتيجة انهيار أسعار النفط في عام 2014، والذي اعتبره المستطلعون في الدولتين الأكثر فقراً في مجلس التعاون الخليجي (عمان والبحرين) التحدي الأكبر للاستقرار الإقليمي متقدماً على البرنامج النووي الإيراني. فقد اتهمت الحكومات الخليجية إيران بالتسبب بانخفاض أسعار النفط لرفضها تخفيض إنتاجها منه. فضلاً عن أنه جرى ربط العجز في موازنة دول المجلس التعاون الخليجي في جزء منه بالحاجة لزيادة الإنفاق العسكري رداً على التهديد الإيراني كما هو الحال في سوريا واليمن.
النتيجة المشتركة هي أن المشاكل التي تواجهها دول الخليج ليست من صنعها (الأجندات الاصلاحية وسوء الإدارة الاقتصادية أو بعض الأسباب الداخلية الاخرى) بل هي عقبات خارجية يضعها خصم خبيث.
في المقابلة نفسها التي استبعد فيها حاكم السعودية إجراء مفاوضات مع إيران لحلّ النزاعات الإقليمية دافع محمد بن سلمان بقوة عن برنامجه الإصلاحي الاقتصادي المعروف باسم “رؤية 2030” وتخفيض الإنفاق الحكومي، وتنويع الاقتصاد، وتعزيز روح المبادرة والاعتماد على الذات بين المواطنين، وجمع الأموال عن طريق خصخصة شركة نفط أرامكو السعودية. وقبل اسبوع فقط، أعادت الدولة علاوات مالية للموظفين الحكوميين والعسكريين كان تمّ إلغاؤها في إطار المرحلة الأولى من إجراءات التقشف. واستمرت إجراءات التقشف التي لم تحظ بقبول شعبي لسبعة أشهر قبل أن تغيّر الحكومة مسارها ما فسره بعض المراقبين الخارجيين على أنه استسلام للضغط العام.
إن ربط بن سلمان بين المخاطر الاقتصادية والأمنية التي تتهدد المملكة كان لافتاً جداً. وهو يعكس محاولة أوسع لطمس هذين التحديين بأن التهديد النابع من إيران يتطلب رداً عسكرياً قوياً ومكلفاً، ولكن أيضاً وحدة وطنية حول الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة لكن الضرورية.
من المعلوم أنه يمكن للنخبة الحاكمة عموماً أن تستفيد من مشاعر انعدام الأمن لدى المواطنين من أجل حشد الدعم لسياساتها التي لا تحظى بشعبية أو لحرف الأنظار بعيداً من فشل الحكم، وفي الاستطلاع الذي أجريناه وجدنا أدلة على ذلك في السياق الخليجي.
إذ يتضح من نتائج الاستطلاع الذي أجريناه مؤخراً أن الحكومات والمواطنين في الخليج يفكرون بطريقة مختلفة حين يتعلق الأمر بالتهديدات للأمن والاستقرار. وبالرغم من أن الحكام يواصلون خطابهم بشأن التهديد الإيراني واتهامهم المعارضين السياسيين بالإرهاب مثل الناشطين الشيعة أو الإخوان المسلمين فإن غالبية المواطنين تبدو أكثر قلقاً من لاعبين هم أكثر ارتباطاً بالحكومات الخليجية كالدول الغربية الداعمة لها عسكرياً والتنظيمات المتطرفة التي تحصل على الدعم المادي والإيديولوجي من بعضها.
حتى الآن يبدو تأثير هذا الاختلاف محدوداً على الصعيد السياسي بيد أن حالة الفوضى التي أعقبت الثورة عام 2011 خلقت لدى مواطني الخليج نفوراً قوياً من حالة اللاستقرار. وبالتالي في حال تدهور الوضع الأمني أو الظروف الاقتصادية تحديداً بصورة أكبر يمكن للمرء أن يتوقع أن تواجه أنظمة الخليج صعوبة في الاختباء خلف البعبع الإيراني.
من شبه المؤكد أن قادة دول مجلس التعاون الخليجي سيواصلون التعبير عن مخاوفهم من التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية ودعوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لانتهاج خط أكثر صرامة ضد طهران بما يزيد ربما من احتمال المواجهة العسكرية المباشرة أو انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. لكن لدى هضم هذه المخاوف، سيكون على المسؤولين الأميركيين أن يأخذوا بعين الاعتبار آراء المواطنين الخليجيين العاديين الذين يعتبرون إيران في نهاية المطاف مصدر قلق ثانوياً للجهادية السلفية، وفي بعض الدول للركود الاقتصادي وتدخل واشنطن في المنطقة. ولدى مقارنة القضايا الثلاث الأخيرة، التي تعدّ مشاكل هيكلية وعابرة للحدود تؤثر على جميع المواطنين العرب، يتساءل المرء عما إذا كان كبح طموحات قوة إقليمية واحدة هي أكثر المهام إلحاحاً بالنسبة للخليج.
المصدر : Justin gengler – foreign affairs
ترجمة : الميادين
إضافة تعليق جديد