هل الصحافة هي حقاً مختبر أدبي؟
يحتفي العالم بمرور نصف قرن على رحيل الروائي الأميركي الأشهر أرنست همنغواي. خمسون عاماً هي سنوات الغياب أو الوفاة التي تُسمّى مجازاً غياباً. إنّه الرحيل الذي ما زاد اسمه إلاّ ألقاً وحضوراً في عالم الأدب والإبداع. «ثمّ تشرق الشمس»، «وداعاً للسلاح»، «لمن تُقرع الأجراس؟»، «الفائز يخرج صفر اليدين»، «الشيخ والبحر»، «رجال بلا نساء»... أعمال إبداعية أثرَت المكتبة الأدبية العالمية ورسخت أسلوباً أدبياً خاصاً يمزج بين الجمل القصيرة البسيطة والعبارات المتأنقة الجميلة. ولا شكّ في أنّ عمله كصحافي مُخضرم أرخى بأثره الكبير على كتاباته كقاصّ وروائي. وهذا ما يتجلّى في مقولته الشهيرة: «على الكتّاب أن يكتبوا واقفين، فإنهم حينذاك سيتقنون كتابة الجمل القصيرة».
تأتي ذكرى الوفاة لتُعيد طرح السؤال حول العلاقة بين الصحافة والرواية إلى الواجهة. هل هما فنّان متكاملان أم متعارضان؟
انطلاقاً من تجربة همنغواي وغيره من الصحافيين - الروائيين يُمكننا القول إنّ العلاقة جدلية بين كلا الجنسين. فالصحافة كمهنة والكتابة كشغف يُِمثّلان وجهتين لعملة واحدة. في الظاهر يبدو العالمان متباعدين. الصحافة عمل يُمارس تحت وطأة الوقت والمتابعة اليومية. إنها الكتابة بعكس عقارب الساعة. أمّا الرواية فهي الكتابة على هوى الشغف والمزاج والإلهام. إلاّ أنّ العدد الكبير من الكتّاب الذين دخلوا أروقة الصحف والمجلات صحافيين خرجوا منها روائيين معروفين حول العالم. ومعظم هؤلاء الصحافيين الذين عملوا كمراسلين أو أداروا الأقسام الثقافية في الصحف كانت لديهم طموحات إبداعية، فوضعوا «الكتاب» طموحاً جليّاً نصب أعينهم... الروائيون الكبار كانوا أيضاً ينشرون مقالات مختلفة في الصحف والمجلاّت الثقافية.
منذ ولادة الصحافة الحديثة وانتشار الإعلام الشعبي دخل الكتّاب هذا الحقل الجديد للكتابة ليجدوه فنّاً ذا وجه خاص ومتميز. العمل الصحافي اليومي أو الأسبوعي أكسبهم كروائيين مهارة التكثيف في اللغة والمباشرة في الأسلوب والسرعة في التفكير والخبرة في عصر الأفكار واستنفارها وتدوينها.
كثيرون هم الصحافيون الذين لمع نجمهم في عالم الرواية ولم يُطفأ إلى الآن. ومن أبرزهم الكاتب المُحتفى به هذه السنة بعدما تمكّن من أن يصنع أسلوبه الروائي المختلف من خلال عمله كمراسل صحافي. لقد استطاع همنغواي أن يُطوّر عملية السرد بجعلها قائمة على التسجيل الدقيق المُستلهم من الخبَر أو المقالة. بدأ همنغواي حياته الأدبية من بوابة الصحافة عبر صحيفة «كنساس ستار» آخر الحرب العالمية الأولى، ثمّ عمل كمراسل لجريدة «تورونتو ديلي ستار» في شيكاغو، ومن ثمّ هاجر إلى فرنسا وعمل مراسلاً فيها وأجرى مقابلات مع كبار الشخصيات آنذاك مثل كليمونصو وغيره. وما كتبه همنغواي عن الحروب واختياره للقضية الإسبانية بين عامي 1920 و1935 وإعلان موقفه السياسي المعادي للفاشية أثّر كله في كتابته الإبداعية واختيار موضوعات رواياته، إلى أن أصبح الصحافي- المشروخ بين رعبه من الفاشية وكرهه للحرب - كاتباً ملتزماً قضايا الإنسان وحقوقه. هكذا كان همنغواي الصحافي الحائز جائزة «بوليترز» الأميركية عام 1953 والروائي الحائز نوبل للآداب عام 1954 مبدعاً في كلا المجالين المتقاطعين.
لا تبدو تجربة الأميركي جون دوس باسوس أقلّ أهمية. فالأديب الذي وصفه سارتر بأنّه «أكبر كتّاب زمانه» كتب رواياته بخلفية الصحافي الذي يسكنه. ووصف الفيلسوف الفرنسي حواراته التي يكتبها على لسان شخصياته بأنّها تُشبه التصريحات الصحافية إلى حدّ ما، وهنا نقطة القوة. أحدث باسوس ثورة حقيقية في الرواية الحديثة باعتماده الواقع كأساس بنى عليه عمارته الروائية. وهو يقول في هذا القبيل: «علينا إظهار هذا العالم. عالمنا. إظهاره من دون أي شروح أو تعليقات». وتُعدّ تجربة باسوس من أكثر التجارب المُضيئة في تاريخ العلاقة بين الكتابة الصحافية والروائية. إنّه في طليعة الصحافيين الذين تمكنوا من الارتقاء بالكتابة الصحافية إلى مستوى الكتابة الإبداعية الأدبية. فمقالاته التي صدرت في صحيفة «لايف» عندما كان يعمل مراسلاً لها في أكثر من دولة تدخل في توصيف دقيق للأشكال والأفعال والحركات وتعرض تحليلات نفسية وجسمانية عميقة. واعتُبرت مقالاته خلال الحرب العالمية الثانية مرآة أميركا في حركتها الليبرالية، تماماً كبعض رواياته.
المناظرة السياسية
لا يُمكن الغوص في هذا الموضوع من دون استعراض تجربة الروائي- الصحافي البريطاني جورج أورويل الذي رسم بريشته على صفحات الكتب كما الصحف ملاحم إنسانية ناصر فيها المحرومين في كلّ مكان. صاحب «1984» أسّس في رواياته كما في تحقيقاته الميدانية مدرسة «الإحساس» التي جعلته يبدو في أقسى الظروف كشاعر مُحارب وليس كمُناظر سياسي أو اجتماعي. حاول أورويل في كلا المجالين أن يُكرّس قلمه لخدمة الإنسان، وجعله أداةً للمعرفة والاكتشاف التي تسمح للفرد المحروم أن يجد السبيل لاحترام ذاته وتقديرها.
أمّا الكاتب والصحافي والموسيقي واللغوي البريطاني أنطوني بورغس فكان ظاهرة بذاته. إنّه دحض الفكرة السائدة عن الأدباء بأنّهم كُسالى قائلاً: «إذا كان الكتّاب لديهم سمعة سيئة بأنهم أُناس كُسالى ولا يصدرون عملاً إلاّ في فترات متباعدة، فإنّ عملهم كصحافيين يُناقض ذلك، لأنّ التحقيقات والمقالات التي تصدر في الصحف اليومية والأسبوعية تدلّ على أنّ الكتاب يعملون جاهدين من أجل دعم الثقافة ونشر المعلومة والمُطالبة بحقوق المواطنين والشباب...» فهو من الكتّاب الذين لم يجحدوا الصحافة حقها بل اعتبرها تمريناً كتابياً مُفيداً له كروائي ومهنة شريفة تُنادي بالمصلحة العامة.
الإيطالي دينو بوزاتي المولود في ميلان عام 1906، عمل في إحدى أهم الصحف الإيطالية Corriere della sera العام 1928 وظلّ فيها حتى وفاته. مارس خلال أربعين عاماً كلّ أشكال الصحافة المكتوبة من مقابلات مع شخصيات كبيرة في عالم الموضة كإيف سان لوران إلى المقالات الثقافية والتحقيقات الاجتماعية... إلاّ أنّ صفحة الحوادث كانت هي الشعلة التي أوقدت خيال بوزاتي الذي اعترف مرّة بأنّه شاهد مصائب وكوارث بجمالية عالية تملأ الروح دهشةً وإعجاباً. إنّ جلّ ما نعرفه عن أستاذ الأدب «الفانتاستيكي» بوزاتي أنّه تأثّر بكافكا والمدرسة السوريالية، إلاّ أنّ أحداً لم يذكر مدى تأثير عمله الصحافي على اتجاهه الأدبي الذي تبنّاه وأبدع فيه.
أمّا الصحافة في شكلها الأكثر نبلاً وأدباً وفناً فكانت مع الروائي الفرنسي جوزيف كيسيل. كتب مقالته الأولى في 14 تموز/ يوليو 1919 وفيها قال: «على وقع الموسيقى الفردوسية، فخوراً، بسيطاً وكبيراً، كفاتح، كمُنتصر روماني، وصل الجنرال بيتان على رأس فرقة «الشعرانيين» (لقب كان يُعطى للجنود الفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى)». وبعد 26 عاماً من هذه المقالة التي جذبت إليه الأنظار أصبح كيسيل واحداً من أشهر وأهم الصحافيين والمراسلين في زمانه. المقالة كانت لديه أشبه بسيناريو فيلم أو مقدّمة رواية. صاحب «الأسرى» و»جميلة النهار» ذاب في مهنة الصحافة حتى اختلط في شخصه الروائي بالمراسل. كان بحثه المحموم عن المعلومة يُرافقه دوماً همّه في كيفية تجميل الكتابة وإخراجها في شكل منقّح ومنمّق. وفي هذا التداخل المعقّد بين التحقيق والرواية يظهر تأثير الصحافة على الأدب في منتصف القرن العشرين. وهذه التجربة تشهد على العلاقة القوية التي تجمع المُغامر كيسيل بكتّاب كبار مثل اندريه مالرو وبليزساندرار.
التأثير الأكبر للعمل الصحافي على العمل الأدبي كان لدى الكاتب الفرنسي جان جينيه. إنّه عمل كمراسل وتبنّى القضية الفلسطينية. عاش في المخيمات الفلسطينية في الأردن سنة كاملة. وفي زيارة له إلى بيروت نهار الأربعاء في 15 أيلول/ سبتمبر 1982 صودف اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل، وبعد يومين على الحادثة حصلت مجزرة صبرا وشاتيلا. غداة الحادثة قصد جينيه المخيّم وجال في الأزقة والحارات الضيقة بين الجثث الممددة وروائح الموت المقززة. فكانت له شهادة مهمّة تصف وصفاً دقيقاً ومؤثراً بشاعة المجزرة التي تعرّض لها اللاجئون الفلسطينيون في المخيم البيروتي بعنوان «أربع ساعات في شاتيلا».
لم تترك قضية المظلومين أثرها على جان جينيه الصحافي والإنسان بل تعدّتها لتسكنه كأديب كبير. دوّن شهاداته وانطباعاته وتجاربه كصحافي متمرّس في تلك المخيمات في أجمل كتبه الأدبية «أسيرٌ عاشق»: «لقد رحّبت بهذه الانتفاضة كما تُرحّب أذن موسيقية بالنوتة. هي نعمة التصاق غير عقلانية. إنّها مُناشدة عاطفية، وقد تكون حسّاسة أو حتى حسيّة. أنا أدافع عن الفلسطينيين من دون مُحاكمة. الحق معهم حتماً طالما أُحبّهم. ولكن هل كنت سأحبّهم لو أن اللاعدالة البشرية حوّلتهم إلى شعب مُشرّد ومنبوذ؟».
هنا برزت روح جان جينيه المُناصرة للمظلوم والمحروم في كلّ مكان. وهذه الروح هي التي طبعت مسيرته الصحافية والأدبية من دون أي تمايز أو اختلاف.
لا يُمكن أن نستثني في هذا المقام أحد أبرز الكتّاب - الصحافيين في القرن العشرين الفرنسي ألبير كامو. بدأ صاحب «الغريب» حياته صحافياً عبر تحقيق مُثير عن حياة القبائل في الجزائر نشرها باسم عربي مُستعار هو محمد بن سالم. وكان غالباً ما يكتب عن أحوال العرب السيئة في ظلّ الاحتلال ما كلّفه وظيفته إلى جانب عداء دولته الأم له فترة لا بأس بها. وكان كامو من دُعاة السِِلم خلال الحرب العالمية الأولى، لكنه عند إعدام النازيين لغابرييل بيري، تبلور موقفه من المقاومة ضد الاحتلال النازي وانضم إلى حزب «الكفاح»، وعمل محرراً للجريدة التي حملت الاسم نفسه. وكان من مؤسسي جريدة «الجزائر الجمهورية Alger Republicain». وكشف العمل الصحافي لألبير كامو عبثية الحياة من خلال احتكاكه المباشر بقضايا الموت والحروب والقتال التي لا تُحرز شيئاً في النهاية. وهذا ما حدّد النهج الأدبي لكامو المعروف بـ «العبثية». إنّ ألبير كامو الصحافي وغيره من الكتّاب - الصحافيين كانوا يتابعون الأحداث والمستجدات وينقلونها وهم على مسافة من الخيال والذاتية. لكنهم استلهموا منها أفكار رواياتهم وأعادوا كتابتها عبر «أنا» درامية مُغايرة تتغذّى من مخيلة الكاتب وآرائه وانطباعاته.
لا شكّ في أنّ كبار الروائيين الذين بدأوا حياتهم صحافيين في القرن العشرين ظلّوا مسكونين بهاجس الصحافة الذي منحهم الفرصة للتمركز على خطوط التماس مع الواقع وأهمّ أحداثه وأعجبها. وإذا كانت الرواية هي فنّ إعادة كتابة الواقع بطريقة أدبية وفق رؤية الكاتب لها، فإنّ الصحافة هي فنّ إعطاء المعلومة وإخبار القرّاء بأبرز أحداث الواقع بأسلوب رشيق ومُقتضب. ولعل كبار كتّاب القرن العشرين في العالم الذين عملوا في الصحافة ماهم إلاّ شواهد على ترابط هذين الشكلين وقد بدت الصحافة مختبراً يتمّ فيه إنتاج أهم الأعمال الروائية وأروعها.
مايا الحاج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد