موسم النزوح إلى التلفزيون حين تغدو الثقافة أشبه بضيف ثقيل
الجمل ـ سعاد جروس: التلفزيون غواية قاتلة لا يستطيع أن يرد دعوتها أحد، فما بالك بالمثقفين والروائيين والشعراء بنرجسيتهم وخيلائهم. كثيرون نادتهم الشاشة ولبوا النداء، زاحفين إلى إمبراطورية حديثة، تفتح ابوابها لكل مهنة وموهبة لتزج بها في آلتها الجهنمية وتقولبها وفق الحاجة. من المهندسين إلى مصففي الشعر، ادخلهم التلفزيون إلى بلاطه ومعهم الأدباء بشعرهم ورواياتهم ونزقهم. انه موسم الهجرة الجماعية إلى التلفزيون، ولكن ماذا عمل المثقفون هناك، او بالأحرى ماذا فعل التلفزيون بهم وبأحلامهم؟
منذ انطلاقته في ستينات القرن الماضي، شكل التلفزيون مركز استقطاب مغريا للعاملين والمهتمين بالعمل الإبداعي. فعدا عن جاذبية الشاشة الصغيرة التي اقتحمت غرف المعيشة، ولم تخرج منها؛ اعتبر من أهم وسائل الميديا الحديثة الأوسع انتشاراً والأكثر استهلاكاً للوقت الثمين والرخيص.
مع ظهور البث الفضائي تحول التلفزيون من مجرد وسيلة إعلامية ترفيهية أو دعائية إلى صناعة ذات بعد تجاري أفرزت في موازاتها سوقاً ضخمة متطلبة، لا تفتأ تنمو وتتوسع مع منافسة شرسة لا تأخذ نفساً. جاء هذا في وقت كانت المجالات الأخرى ذات الصلة بالإعلام الجماهيري والعمل الفني الإبداعي كالسينما والمسرح والنشر تشهد تراجعاً مخيفاً، جراء السياسات الثقافية العربية المرتبكة على وقع تراجع المشروع القومي النهضوي واليساري، ودخول الأنظمة العربية في حالة سبات شتوي مزمن؛ احتاجت معه إلى وسائل إعلام تغطي على خيباتها. فكانت الفضائيات الداء والدواء معاً لواقع يتقلب تحت وطأة تغير تحالفات السياسات الدولية واتجاهاتها، ما جعل التلفزيونات ببثها المحموم 24/ 24 تتحول إلى محرقة هائلة، وقودها جيوش من التقنيين والإعلاميين والصحافيين والأدباء، رجال دين، علماء نفس، أطباء مهندسين، وليس على الهامش طبعاً، مطربون ومطربات وراقصات... لا يظهر منهم إلا النذر اليسير على الشاشة، في برامج منوعات للترفيه والتجارة معاً وأكثرها للدعاية والإعلان، وأقلها القليل للثقافة والتنوير، وكأنما النزوح الكبير الذي نشهده للأدباء والمثقفين نحو التلفزيون يضيع في الزحام دون أن يترك أثراً يذكر في الجماهير!! ونكاد نسأل أين هم من كل هذا؟ هل العلة في المثقفين والثقافة أم بالتلفزيون، أم هو واقع عربي مأزوم على كل الأصعدة؟
شاعرٌ يحاكم شاعراً
الروائي السوري فواز حداد يعيد صياغة السؤال على الشكل التالي، ماذا يريد التلفزيون من الأدباء والصحافيين؟
لا يمكننا الإجابة على هذا السؤال قبل النظر إلى عدد من البرامج تصدى لإعدادها وتقديمها شعراء وأدباء وصحافيون، كبرنامج «خليك بالبيت» للشاعر زاهي وهبي و«قريب جدا» للشاعر جوزيف عيساوي، و«صالون دريم» للأديب جمال الغيطاني، و«قلم رصاص» لحمدي قنديل، «طيب الكلام» لديانا جبور، وغيرها من برامج في هذه المحطة أو تلك، باتت تستقطب مثقفين لتقديم برامج حوارية أو توك شو...
الشاعر السوري عادل محمود، يرى أن الشعراء والكتاب، من مقدمي البرامج التلفزيونية غير موفقين، لأن الإعلام لا علاقة له بمعنى الإبداع الأدبي من الشعر والرواية والقصة. والمبدع يمكن أن يكون مشاركاً في برنامج لكن ليس قائداً له. ولا بد للعمل التلفزيوني أن يعيق عملهم الإبداعي. ويلفت عادل محمود النظر إلى أن معظم الأدباء الذين اشتغلوا في التلفزيون باتوا اقل إبداعا مما سبق، والسبب يعود للجهد الكبير الذي يتطلبه العمل الإعلامي في ترتيب اللقاءات وإعداد المواد، مما يستهلك صاحبه أيضاً؛ ويعتبره الشاعر عادل محمود إساءة للشعراء والأدباء، عدا المسألة الأهم، وهي عدم قدرتهم على خوض معارك نقدية حقيقية كونهم طرفا في العملية الإبداعية، لذا اغلب البرامج تتجه نحو المجاملة. إذ كيف لشاعر أن يحاكم شاعراً!! في حين يجب أن تتوفر للإعلامي مسافة محسوبة أكثر استقلالاً، تمكنه من ممارسة دوره النقدي.
الشاعرة السورية هالة محمد والتي أخرجت عدة أفلام سينمائية وثائقية عُرضت في قناة «الجزيرة»، وسبق لها أن شاركت في أفلام روائية طويلة، تختلف مع الطرح السابق، وترى أن البرامج التلفزيونية التي يقدمها الشعراء والأدباء جيدة ونحتاج إلى المزيد منها. فهم أبناء المشهد الثقافي، يعرفون من يستضيفون في برامجهم، وأي أسئلة يجب أن تطرح، كما لا تعتبر انتقال الأدباء إلى التلفزيون هجرة، بل هو تنقل طبيعي للمثقف بين الأدب والسينما والمسرح والتلفزيون في فضاء هو فضاؤه، يحق له العمل فيه طالما لديه مشروعه الإبداعي والثقافي، والحق أيضاً في البحث عن الوسيلة التي يحقق بها ذاته.
كلهم يخضعون لشروط المرئي
إلا أن فواز حداد لا يلاحظ فيما يقدمه المثقفون في الفضائيات العربية ما يتميز فعلاً عما يقدمه الآخرون، فهم مثل غيرهم يخضعون لشروط العمل التلفزيوني، ولا يستطيعون فرض شروطهم، ولا تلبية طموحاتهم التي لا تتعدى أكثر من التأقلم مع هذا النوع من وسائل الاتصال الجماهيرية، فلا ينبغي المبالغة فيما يقدمونه. إنهم يدخلون إلى مكان أُعد سلفاً، وكل ما يستطيعون فعله أن يقتطعوا لأنفسهم حيزاً فيه، لا مكاناً خاصاً ولا أدواراً مهمة، كما كان الحال في الإذاعة قبل ظهور الفضائيات. ويتذكر حداد، برنامجاً للأمير يحيى الشهابي، كان باختياراته الشعرية وبإلقائه المتميز يقدم شيئاً تجهله الإذاعة في ذلك الوقت، وكذلك البرامج الثقافية، وأحدها كان للمخرج المعروف رفيق الصبان وكان متميزاً جداً في برنامجه الإذاعي، حتى أننا نستطيع القول بأنه أطلع أجيالاً من الشبان على المسرح والسينما في العالم. وحول السبب في غياب هذا التميز عن التلفزيونات العربية، يوضح حداد: الإذاعة لم تكن لديها شروط كالتلفزيونات، فكان الأدباء يمارسون إسهاماتهم فيها مسلحين بكامل عتادهم الإبداعي. وللأسف هذا غير متوفر في فضائيات تنتج برامج مثيرة ومسلية للاستهلاك السريع، تستقطب مشاهدين وإعلانات. بينما في الغرب على الرغم من الشكوى من حمى الاستهلاك الذي طبع إنتاج كل شيء تقريباً، فما زال هناك هامش لبرامج ثقافية تستضيف نقادا كبارا لمناقشة كتاب، ينعكس تأثيره على ارتفاع مبيعاته بآلاف النسخ. هذا مفتقد لدينا لضعف الثقافة بالذات، ولعدم وجود حركة نقدية مهمة تفرض على التلفزيون سوية ثقافية جادة. وإذا كانت برامج الحوارات تلقى نجاحاً محدوداً، فلأنها تهدف إلى التعريف بالأدباء والشخصيات الثقافية والفكرية، وتقديم وجهة نظر ايجابية عنها، لا نقدية وتشوبها السطحية، وهو أمر أقرب للإعلان منه إلى الإعلام فما بالنا بالثقافة. بينما أغلب البرامج الثقافية الأخرى التي يعدها مثقفون تأخذ طابعاً إخبارياً، وأشبه بما يقدم في الصفحات الثقافية ومصابة بالأمراض ذاتها، حيث يأتي صاحب البرنامج بأصدقائه ومعارفة ممن يرتبط معهم بعلاقات طيبة ليظهروا على الشاشة من باب تحمل الجميل أو رده، لذلك لا غرابة أن يحس الكثيرون من أدباء المدن البعيدة والأرياف بالغبن.
المثقفون متجهمون ولا يتأقلمون مع الشاشات
برنامج عن الكتاب لا تتجاوز مدته عشر دقائق في إحدى القنوات العربية، قالت معدته بمعرض دردشة عابرة أن برنامجها فشل فشلاً ذريعاً، عندما كان يستضيف مثقفين للتحاور معهم حول كتاب صادر حديثاً، فلغة المثقفين المعقدة والغامضة، كانت تصيب المشاهدين بالضجر، لذا حولت برنامجها إلى ما يشبه الفاصل الإعلاني السريع، وبقالب حيوي بسيط، يتم فيه استضافة كاتب أو ناشر للتعريف بالكتاب في أقل من دقيقة، كنوع من الخدمة الثقافية تقدمها القناة ليس إلا. ثم تتساءل، لماذا يجب أن يكون الحضور الثقافي على الشاشة متجهماً وثقيلاً؟!
هذه الشروط يرفضها عادل محمود، كما لا يتخيل ذاته يوماً جالساً أمام الكاميرا يحاور ضيفاً شاعراً، لأن ما سوف يهدره من وقت لتحضير الحوار، من الأفضل أن يستغله في الكتابة والإبداع. ولدى سؤاله، إذا عرض عليه ذلك جدياً، فهل تقبل؟ قال لا، واستدرك، حتى لو حدث هذا فلن أقبل إلا وفق شروطي الخاصة، واعتقد أن هذا غير ممكن.
هالة محمد نظرت لمسألة الإقبال على العمل في التلفزيون من زاوية مغايرة تماماً، ورأت فيها الحل الممكن للمبدعين والموهوبين الشباب في مختلف مجالات الإبداع، في ظل الانحسار الثقافي وشح إمكانات العمل لجيل كامل من الشباب، وغياب مؤسسات راعية. فلا معاهد سينما متوفرة، والمسرح في أزمة، والكتاب خلاصة جهد فردي يسلك طريقاً طويلة ومتعثرة غالباً، لذا العمل في التلفزيون يتيح الكشف عن المواهب واختبارها وتنميتها.
لعل التجربة السورية في التلفزيون تثبت ما ينطوي عليه هذا الرأي من صحة، فقد اتاح تطور الدراما السورية والإقبال عليها من قبل السوق العربية، الفرصة أمام الكثير من الكتاب ليقدموا جديداً على صعيد كتابة السيناريو. ويشير فواز حداد إلى عدد من الكتاب برعوا في الدراما التلفزيونية، وأضافوا إلى التجربة الدرامية كالكاتبة ريم حنا ومية الرحبي ونجيب نصير وحسن يوسف سامي، لكنه ينبه الى أن هؤلاء تفرغوا لكتابة السيناريو وأخلصوا له، كما فعل أسامة أنور عكاشة، فقد قطع علاقته بالقصة وتفرغ لكتابة السيناريو، وتمكن من تقديم ملاحم تلفزيونية مؤثرة. أما الأدباء الذين كتبوا السيناريو من أجل العائد المادي الكبير فهذا عذر كاف لينظروا إلى الكتابة التلفزيونية بقلة احترام، ولم يتمكنوا من إضافة جديد لأنهم بالأساس جاءوا ليقدموا شيئاً حسب الطلب المواكب للموضة الدارجة، ولم يعطوا كتابة السيناريو ما أعطوه للأدب. وإذا لم يشكل هؤلاء تأثيراً، فلأن الكتابة للتلفزيون كانت هامشية بالنسبة إليهم.
كلام حداد يذكر بكلام الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد حول الأسباب التي دفعته لكتابة الدراما التلفزيونية بأنها جاءت لسبب شديد الخصوصية، لا علاقة له بالأدب وهو وفاة زوجته بعد إصابتها بمرض عضال، ودخوله بحالة نفسية حزينة دفعته للبحث عن عمل ينتزعه من هذه الحالة. ويقول عبد المجيد انه لجأ لكتابة السيناريو بدلاً من الرواية، لأن الرواية كانت ستزيده شجناً وحزناً، فيما كتابة السيناريو فيها هندسة شكلية، تسبب انشغال البال أكثر من انشغال الروح. بالإضافة إلى أن السيناريو سيدخله في مشاكل موضوعية مع مخرج ومع الرقابة، ستكون مخرجاً له من الحزن. ويظن عبد المجيد أنه سيتوقف عن كتابة المسلسلات بعدما استعاد لياقته الروحية. كذلك الروائي والسيناريست خالد خليفة، لا يعتبر الكتابة التلفزيونية فناً عظيماً ويضع العائد المادي ضمن أهم الأسباب التي دفعته لكتابة السيناريو الدرامي، دون تجاهل ما تشكله من فرصة لتجريب أنواع أخرى من الكتابة.
العائد المادي الكبير للعمل في التلفزيون، قياساً للعائد الذي يحققه العمل في الصحافة والأدب، يكاد يكون أهم المغريات التي تجذب الأدباء إليه، فأجر كتابة ساعة درامية يترواح بين 600 و 2000 دولار أميركي،
وقد تستغرق كتابتها عشرة أيام، بينما كتابة الرواية أو الشعر، فعدا ما تستهلكه من زمن قد تستغرق عدة سنوات، لا تعوض صاحبها تكاليف الطباعة. ويمكن لكاتب غير موهوب أن ينجح تلفزيونياً، ويغدو نجماً لامعاً في الفضاء الرحب، فيما يقبع كاتب أو أديب مهم في الظل منتظراً حصوله على جائزة أو مناسبة تلقي الضوء على تجربته، ليحصد بعض الشهرة لكن ليس الكثير من المال. بينما المال والشهرة متوافران ويكفيان ليشكل العمل التلفزيوني حلماً لدى الكثيرين، وبالأخص ممن لا يطيقون صبراً على اجتياز طريق الإبداع الطويلة الوعرة وغير المجزية في مجتمعاتنا العربية، ضمن مناخ وبيئة غير مشجعين، وفي عصر وصفه عادل محمود أنه «عصر الصورة». فيما رأى خالد خليفة أنه عصر التلفزيون كوسيلة تعبير تفاعلية مهمة، تتلقى ردود الفعل عليها مباشرة، دون الحاجة للانتظار فترة طويلة كما هو الأمر مع الكتاب المطبوع، وأن من استهواه العمل فيه من الصعب أن يتركه. ومع أن خليفة يعتبر الكتابة التلفزيونية أدنى من الكتابة الأدبية، إلا أن هناك أشياء يعبر عنها في التلفزيون بسهولة، ولا يستطيع أن يعبر عنها في الرواية. أما الشهرة التلفزيونية فلا يعيرها خالد خليفة أهمية كبيرة كونها آنية وزائفة، وبل قد تكون محرقة، فمن يتوار عن الشاشة ينسه الجمهور. والمعروف اليوم على نطاق واسع، يغدو بعد قليل في خبر كان، بينما الشهرة الحقيقية هي تلك التي تأتي من العمل الإبداعي الحقيقي، فهي الأكثر رسوخاً وديمومة. ويضرب مثالاً على ذلك هو الشاعر محمود درويش الذي ستظل تذكره الأجيال المتعاقبة.
بالعودة إلى سؤال فواز حداد، ماذا يريد التلفزيون من الأدباء والمثقفين؟ لا شك في أنه يحتاجهم للتنويع والتميز، اللذين لا يتوفران في شريحة أخرى، كما هما لدى حملة شعلة الإبداع، لكن خفة ما هو مطلوب اليوم تطغى على المشهد العام، فتبدو الثقافة الجادة والرؤى العميقة أشبه بضيف ثقيل لا تحتمله ديناميكية الإعلان وسرعة الاستهلاك.
الجمل+ الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد