مواقف القوى السورية المعارضة من حرب 12 تموز
كان اليسار الماركسي السوري المعارض من أوائل قوى اليسار العربي إلى المبادرة للمصالحة مع مفهوم الديموقراطية منذ أواخر السبعينات, بعد عقدين من الافتراق الفكري مع هذا المفهوم. وقد بنيت الديموقراطية, كتصور فكري - سياسي, على رؤية تربط ضرورة تحقيقها بعملية وقف تردي الأوضاع الداخلية وتدهور الوضع العربي أمام اسرائيل, كما نرى في مقال تأسيسي, تحت عنوان «ملاحظات أولية حول الديموقراطية», نشرته الجريدة المركزية للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) في شهر آب (اغسطس) 1978 وجاء فيه: «التدهور العربي الحاصل مرتبط بتدهور الدولة العربية. وتدهور الدولة شديد الارتباط بغياب الديموقراطية. الدولة تضغط على المجتمع وتخنقه وتدفعه للتردي, لكن الدولة لا تقوم إلا بالمجتمع. فهي تتردى معه. الهزائم في الصراع ضد العدو الاسرائيلي... لا تبين إلا ضآلة القوى التي أمكن للدولة أن تجندها... ناهيك من سوء إدارة الصراع وهدر القوى. الهزائم مرتبطة بهزيمة الحرية في الداخل. لقد أصبحت الديموقراطية شرطاً للتقدم العربي. إن الديموقراطية ليست التقدم, لكن لا تقدم بدون ديموقراطية». («نضال الشعب», العدد204, آب 1978).
سيطر هذا الخط الجديد على القوى السورية المعارضة, عبر تأسيس «التجمع الوطني الديموقراطي» في آذار (مارس) 1980, واستمر طوال عقدين من الزمن مهيمناً على خطها الفكري - السياسي, وخاصة بعد انضمام قوى إلى الخط الديموقراطي, مثل حزب العمل الشيوعي الذي كان يعتبر خطاً كهذا حتى أواخر الثمانينات ضمن خط الديموقراطية البرجوازية, أو «الاخوان المسلمين» الذين قدموا فهماً مشابهاً للديموقراطية في «ميثاق الشرف» (أيار / مايو 2001) بعد أن كانت «الشورى» متغلبة عندهم على «الديموقراطية». ويلاحظ, في هذا الصدد, أن قوى المعارضة السورية, التي مزجت بين الديموقراطية والوطنية والقومية, كانت على يسار النظام في المواقف الوطنية - القومية أثناء محطات اتفاقيات كمب دايفيد عام 1978, واجتياح لبنان سنة1982, وفي حرب الخليج سنة 1991 وانتفاضة الأقصى عام2000.
اختلفت الأمور بعد احتلال العراق عام 2003. كان الموقف من الاحتلال الأميركي للعراق مفصلياً في تحديد الاصطفافات بين القوى السياسية السورية المعارضة, بين قوى اتجهت إلى الليبرالية (بعد أن غادرت الماركسية) وأغلب الأحزاب الكردية السورية التي كان موقفها مؤيداً, صراحة أو ضمناً, للعملية الأميركية في العراق, وبين قوى قومية عروبية, ويسارية ماركسية, وقفت موقفاً مضاداً لما جرى في العراق منذ سقوط بغداد يوم 9 نيسان (ابريل) 2003. وقد أفصح هذا الاستقطاب عن نفسه في تقسيم هذه القوى, باستقطابها نفسه تجاه حدث 9 نيسان2003, إلى معسكرين تجاه أحداث 12 آذار الكردية في القامشلي, وحيال الأحداث اللبنانية في ربيع 2005, ثم تجاه (أزمة ميليس), مع موقف وسطي بين الضفتين اتخذه تنظيم «الإخوان المسلمين».
بانت مفاعيل ذلك في حرب 12 تموز (يوليو) 2006: كان موقف القوى الليبرالية السورية في الحرب قريباً من مواقف قوى 14 آذار اللبنانية, اذ لم يكن موقفها منطلقا من موقف معاد للعامل الأميركي في الحرب, وإنما من كون هذه الحرب قد نشبت «على خلفية أسر جنديين اسرائيليين وجدت فيه اسرائيل ذريعة للقيام بعمليات تقتيل وتدمير للشعب اللبناني وبناه التحتية» على حد تعبير بيان 17 تموز الصادر عن «حزب الشعب الديموقراطي» بزعامة رياض الترك, ليعتبر البيان أنها تدخل «في إطار تصاعد وتيرة الصراعات الاقليمية وأهداف ومصالح اللاعبين فيها, وهي تجعل من لبنان ساحة للصدام والمواجهة», ومع أنه اشار في معرض الموقف من «حزب الله» الى أن المقاومة «حق مقدس, لكنه استطرد أن «قدسيتها تنبع من كونها تعبيراً حقيقياً عن إرادة وتطلعات الشعوب... وليس استفراداً بالقرار من قبل طرف أو فئة يجر البلاد إلى مصير مجهول خدمة لمشاريع اقليمية, تتخطى المصالح الوطنية للشعوب وتهدد مستقبلها».
يلاحظ وجود موقف مماثل عند القوى الكردية السورية, حتى المعتدلة منها، مثل الحزب اليساري الكردي, عندما اعتبر في جريدته المركزية («طريق الشعب», آب2006) أن الحرب «لم ينظر أحد إليها على أنها مجرد حرب بين حزب الله واسرائيل فقط, فقد كان واضحاً أن الحرب هي بين إرادات عدة في المنطقة والعالم... كانت لها أهدافها البعيدة عن الحدود اللبنانية», فيما لوحظ أن «الاخوان المسلمين», رغم عدم اصدارهم موقفاً رسمياً من الحرب, فإن رموزهم القيادية كانت تنظر إليها من خلال التضاد مع العامل الاقليمي الايراني وليس عبر موقف مضاد للعامل الأميركي أو من خلال المقاومة, كما لوحظ مثلاً عند القيادي في «الاخوان» محمد الحسناوي في مقاله, المنشور على الموقع الالكتروني «أدباء الشام» القريب من الجماعة, بعنوان «خطف جندي اسرائيلي من أجل فلسطين وخطف اثنين من أجل القنبلة الايرانية» (15تموز), فيما كان لافتاً للانتباه خلال الحرب, امتلاء موقع «أخبار الشرق» الالكتروني والقريب من «الاخوان», بمقالات لأشخاص محسوبين عليهم, ركزت على ربط أجندة «حزب الله» «بتنفيذ مخطط يهدف إلى نشر الفوضى في المنطقة العربية, لحرف الأنظار عما تقوم به ايران الفارسية الصفوية وحلفاؤها من الأحزاب الشيعية الصفوية العراقية, من عمليات تطهير عرقي وطائفي ضد أهل السنة... ثم لتحسين شروط ايران في قضية القنبلة النووية... ولذلك فقد استخدم هؤلاء لبنان ساحة لإظهار ما يملكون من أوراق صنع الفوضى في المنطقة, من دون أي اعتبار للبنان الدولة والشعب» (من مقال الدكتور محمد بسام يوسف: «أجندة حزب الله وحلفائه», موقع «أخبار الشرق», 18 تموز), فيما ارتفعت أصوات قليلة تنظر بريبة إلى العامل الايراني في الحرب, وفي المنطقة, ولكن من مواقع عروبية ويسارية متضادة مع العامل الأميركي.
في الضفة المقابلة, نجد اتجاهاً للنظر إلى الحرب عبر موقف مضاد للعامل الأميركي ومن موقع التماهي مع المقاومة الاسلامية في لبنان, كما يظهر من «بيان إلى الأمة» الذي صدر في 2 آب, ووقعت عليه- مع أطراف عربية - قوى سورية مثل التنظيم الناصري (حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي) بزعامة حسن عبدالعظيم, و «حركة الاشتراكيين العرب» بقيادة عبدالغني عياش, وهما فصيلان موجودان مع «حزب الشعب» في»التجمع الوطني الديموقراطي» وفي «اعلان دمشق», فيما وضع توقيعه عليه الدكتور أحمد فايز الفوازالذي كان, مع رياض الترك وأحزاب «التجمع», من مؤسسي «الخط الوطني الديموقراطي» بين عامي 1978 و1980. ويلاحظ في هذا البيان (إلى الأمة) غياب الديموقراطية عن نصه, وتغليب وطغيان الوطني والقومي عند النظر إلى المسألة, مع انعدام ربطها بمقولة «الهزائم مرتبطة بهزيمة الحرية في الداخل» التي وردت في ذلك المقال الذي كتبه الدكتور الفواز في شهر آب عام 1978عندما كان, مع الترك, الرمزين الأبرزين للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي), تماماً كما يلاحظ الآن في الجهة الأخرى, عند الترك, تغليباً لمقولة «الديموقراطية المحضة» عند النظر إلى المسائل المختلفة وابتعادا عن مواقفه الوطنية والقومية السابقة.
يؤدي هذا عملياً إلى انقسام المعارضة السورية إلى ضفتين. لذلك كانت هذه البيانات والمقالات المنفصلة للضفتين أكثر تعبيراً من البيانات التي أصدرتها هيئات تجمعهما, أثناء الحرب, مثل «التجمع الوطني الديموقراطي» و «اعلان دمشق», والتي لوحظت عليها العمومية والضبابية إلى درجة وصولها إلى حدود أن لا تقول شيئاً. فيما يلاحظ, على هذا الصعيد, أنه كما يحصل ابتعاد عند أصحاب خط «الديموقراطية المحضة» عما كانوا يتخذونه من مواقف تجاه القضايا الوطنية والقومية, فإن هناك ابتعادا عند بعض من هم في خط «الوطنية المحضة» إلى حدود تصل, عند أشخاص معارضين, إلى تخفيض السقف إلى حدود «تقييد قانون الطوارىء» بدلاً من رفعه وإزالته, كما اعتادت المعارضة في مطالبها منذ عام 1978, وإلى الوصول الى مقولة «منع الأحزاب الفئوية والعرقية» بعد أن كان البرنامج المعارض يقول بنشر الحريات الديموقراطية والسماح لكل التعبيرات السياسية بالظهور, فيما توجد سقوف أعلى من ذلك عند أحزاب وقوى موالية للسلطة (يوسف الفيصل) أو قريبة منها (الدكتور قدري جميل).
هل يعني ذلك وصول الحياة السياسية السورية إلى تخوم وجدناها, في الجزائر والسودان والعراق, حيث كانت الانقسامات والاستقطابات والاصطفافات, تبنى بعيداً عن منطق البني والرمادي على منطق الأبيض والأسود, بخلاف تقاليد الحياة السياسية السورية منذ عام 1946, والتي كانت أيضاً لا تبنى فيها السياسة على رقمين فقط: الصفر والمائة, وإنما على ما بينهما؟
محمد سيد رصاص
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد