ممدوح عدوان في كل ما كتب
«خير ما تكتبه هو ذلك الذي تكتبه، وكأن أحداً لن يقرأك.. ذاك الذي تكتبه باطمئنان، وكأنك تعترف.. كأنك تتعرى.. كأنك تضع نفسك المحملة على طاولة وتشرحها، وأنت مقفل على وحدتك الباب ونوافذ البيت.. بلا خجل.. بلا خوف.. بلا حساب..».
بهذه «النصيحة» قدم ممدوح عدوان نفسه في ثمانين كتاباً، وستة عشر مسلسلاً تلفزيونياً، ومئات وربما آلاف المقالات الصحفية.. كتابة تنوعت بين: الشعر، والرواية، المسرح، المقالة و.. الدراما التلفزيونية.. وهو ـ حسب الأديب حسن. م يوسف ـ كان يعطي نفسه كلياً لما هو فيه، فهو يكتب، كما لو أن لا شيء في حياته غير الكتابة، وهو يمزح، كما لو أن لا شيء في حياته غير المتعة..
هذا «التنوع» المدهش جعله «هدفاً» لإطلاق الكثير من ا لصفات فهو: الساحر، غول الثقافة، زوربا العرب، المتوهج المقبل على الحياة.. لكن عدوان يقول عنه ذلك: «إنني أفعل ما أعتقد أنني استطيع كتابته، وعندما أدخل أحد الميادين، أول ما أطالب به نفسي كل مستلزمات هذا المجال» وإن كان ـ شاعراً ـ في كل ما كتب. ذلك ما يؤكده «المنتدون» في ندوة عقدت عن «تنوع» ممدوح عدوان خلال الفعاليات الموازية لمعرض الكتاب الثاني والعشرين في مكتبة الأسد شارك فيها كل من الزميل الأديب حسن. م يوسف متحدثاً عن الكتابة الدرامية، والناقد جمال باروت الذي تحدث عن ممدوح عدوان شاعراً، والمسرحي نبيل الحفار تحدث عنه مسرحياً ومدرساً..
«.. النار ورائي وأمامي
وأنا أتقلب بين جموع مذهولة
ووجوه لا يعرف واحدها الآخر
أعبر أجساداً جادة
وبوهج النار أراها مقتولة..».
ممدوح عدوان الذي كان يعتبر الشعر فيه أولاً ـ حسب حسن. م يوسف ـ إذ ثمة من عاشوا أكثر منه عمراً ولم يكتبوا مثله سبع عشرة مجموعة شعرية، لكنه في المسرح أيضاً، ربما شكسبير لم يكتب مسرحيات بعدد مسرحياته، التي بلغت ستة وعشرين نصاً مسرحياً، إضافة لاثنين وعشرين كتاباً ترجمة و.. ستة عشر مسلسلاً تلفزيونياً وهذا بتقدير ـ يوسف ـ رقم مذهل، رغم أنه في البداية كان ينظر إلى الشاشة بريب باعتبارها ولدت من رحم الإذاعة، فجاءت الدراما التلفزيونية مثقلة بتقنيات كتابة الإذاعة، الأمر الذي ولّد نوعية تلفزيونية تشاهد بالأذن، والتي لا تزال مستمرة إلى اليوم للأسف.
نظرة التشكك هذه لم تكن لعدوان وحسب، بل كانت لجل المبدعين، الذين نظروا للدراما التلفزيونية كوسيلة ترفيه لجذب المشاهد.. وكان التحول في مطلع الثمانينيات إثر عودة السينمائيين السوريين من الدراسة في موسكو وغيرها، ونظراً لندرة الفرص في السينما فكان أن توجهوا إلى التلفزيون، ونقلوا التقنيات السينمائية إلى التلفزيون الأمر الذي شجع المبدعين للكتابة التلفزيونية، وكان في منتصف الثمانينيات أن قدم ممدوح عدوان «دائرة النار» إخراج هيثم حقي، صحيح أنه لم يشق طريقه في أرض بكر إذ كان سبقه مسلسل «أسعد الوراق» لكنه كان بالأسود والأبيض، غير أن دائرة النار كانت الانطلاقة الدرامية بالألوان.. التي تميزت سواء من حيث الموضوع الذي تناولته، والبعد عن أسر الإذاعة وتقنياتها..
مع تطور الصناعة الدرامية في سورية بدأ عدوان يعترف بها كجزء هام من مشروعه الثقافي بدل تركها لمروّجي التفاهة فهو يكتب الدراما ليروي قصصاً ويقدم المتعة حسب تعبيره، تاركاً لشخصياته أن تقدم نفسها بعيداً عن أسلوب الدراما المصرية أو الهندية، حيث الشر الخالص أو الخير الخالص، فهو يقول في كل أعمالي ثمة بشر يجب أن نفهمهم، وهم بشر مثلنا، وكل منهم موجود ضمن شروطه المحيطة به، وإيقاع عصره.. مؤكداً أن لا شيء يمكن أن تتلقاه باسترخاء ويكون جيداً.. فالفن الجيد يجب أن يوثب أذهاننا، يضيف ـ يوسف ـ على لسان عدوان: أكتب لأتسلى وأستمتع بالكتابة، ويعترف بفضل التلفزيون عليه الذي كان صانع شهرته وأمّن له مورداً مالياً لا يمكن للشعر والرواية التي جربها مرتين أن يحققا انتشار التلفزيون للمرء!!
«أصطفيك من العكر العربي
فيضحك لي شارع عابس في دمشق
أستمدك ماء زلالاً وأهجع في المقلتين
أستريح من المفردات التي صدئت
تبدأ اللغة البكر حين نجالس ضوضاءنا نظرتين..»
لأن ممدوح عدوان شاعر بالدرجة الأساسية، فقد وجد الناقد جمال باروت أن الشعر لديه كان ممتداً في الأجناس التي كتبها كافة.. فقد كان شاعراً غنائياً بامتياز ينتمي إلى ما يمكن تسميته جيل المنعطف الثاني في حركة الشعر الحديث، وهو جيل الستينيات، أي الجيل الأول في حركة الشعر في سورية، فقد كتب عام 1963 في مجلة الآداب شعراً ناضجاً، التي كانت تصدر إلى جانب مجلة شعر، وهذا الجيل هو المؤسس لحركة الشعر في العالم العربي، وإن تكونت خلال مسيرة هذه الحركة ظواهر جمالية راديكالية ـ حسب وصف باروت ـ لكنها كانت فورات، وكحركة مستدامة بدأت مع جيل الستينيات ـ ربما من هنا كان يصر عدوان على ترديد عبارة نحن جيل بلا آباء.
ويرى باروت أن عدوان كان من ألمعها، وجاءت تجربته متأثرة بخارجيات شعرية، فكان غنائياً منفتحاً لروح الحداثة.. وحيث كان ثمة حركتان في تلك الأثناء حركة القصيدة الرؤيوية وتمثلها مجلة «شعر»، وحركة مجلة الآداب، وكان ممدوح أقرب إلى الثانية، مع أن ثقافة ومرجعياته أقرب إلى الأولى، فلم يكن يحب طريقة أدونيس، كان أقرب إلى الطريقة الأقل تعقيداً في نزعتها الشعرية وكان محكوما بـ «كم» عدد من يقرأ أدونيس؟..، أي كان محكوماً بتأثير الجماهيرية وخارجية الشعر.
وخلافاً لجيل الستينيات في العراق يقول ـ باروت ـ الذي كان أصدر مجلة (شعر 96) لتمثيل اتجاه حداثوي في فهم طبيعة الشعر ووظيفته وأدواته ضمن الأفق الأدونيسي، بقي عدوان وجيله متمسكاً بفهم بسيط للغة القصيدة ينفر من الغموض الدلالي مقتنعاً بتيسير عملية التوصيل والتواصل، وكان الرمز التاريخي الحي في الذاكرة الجمعية أكثر من الرمز الاسطوري بسماته الرؤيوية.. وأقرب إلى فهم الشعر كنمط حياة وهذا يساعدنا لفهم الشخصية النهمة للحياة والشعر التي عبر عنها بأجناس مختلفة.. بغنائية عالية فكانت ابنة مرحلتها.. وفي أواخر حياته أخذ يحن إلى المكان الأول، وهذه سمة لد ى العديد من الشعراء.. هذا الحنين شيء جمالي ـ برأي باروت ـ بالعودة إلى النثري بمعناه الجمالي الواقعي التفصيلي.
«.. كان القمر مريضاً أصفر ممتقعا
يعلو موقعه المرتفعا
ينعس في الليل
ولا يجرؤ أن يفغو
يخشى إن نام.. بأن يقعا..»
ممدوح عدوان الذي بد أ شاعراً ـ حسب نبيل الحفار ـ لم يغادر روح الشعر في كل ما كتب.. فقد كان في المسرح تجريبياً، ليس بالمعنى المهلهل للتجريب، كتب في أنواع الدراما المسرحية كافة، وفي جميعها كان عقله منفتحاً على شروط العرض المسرحي، يناقش ويعدل ويغير بما يخدم مقولة النص المسرحي التي كانت عنده في المقام الأول.. وشروط الخشبة.
وأشار الحفار إلى ممدوح عدوان المعلم والمربي في قسم الدراسات المسرحية، لمادة الكتابة المسرحية التي تناوب على تدريسها كل من: سعد الله ونوس، فرحان بلبل، وأخيراً عدوان، والذي تناول تدريس المقرر بالتحفيز لخوض كتابة التجربة المسرحية، وبدأ الطلبة يمررون بعض النصوص التي تعالج موضوعات تراثية، ومشكلات اجتماعية معاصرة، وبعضها كان مسرحة لبعض القصص والروايات من الأدبين العربي والعالمي، وذات مرة كان أن قدم الطلاب بإشرافه ستة احتمالات لمصير امرئ القيس، الذي تناول سيرته مع طلابه، وحصل معهم بعض احتمالات تفسر مواقف هذه الشخصية وردود أفعالها..
فقد كان جوهر فن الدراما لديه يكمن بفتح إمكانية التأويل على مصاريعها، وبرأيه الكاتب البارع هو الذي لا يقع في مطب تسطيح الشخصية، لذلك كان يكثر من الشواهد لدعم وجهة نظره ولتعويد الطلبة على المتابعة المتنوعة وعلى المقارنة التحليلية..
كيف ترسم الشخصية الدرامية؟.. كان سؤالاً دائماً لديه. التدريس الذي يراه ـ الحفار ـ عملية بالغة الصعوبة والإمتاع، لكنها موهبة وإبداع معاً.. وهذا ما تحقق في شخصية ممدوح عدوان ومن هنا يفسر تعلق طلابه به لا يفارقونه حتى في الاستراحات مستوعباً كل نزواتهم ويتعامل معهم كمواهب محتملة لمسرحنا السوري، وقد كان محقاً في أسلوبه..
«يألفونك
فانفر
إلى وطن قد يهاجر فيك
وينسى تغرّبه
ثم تذوي
كأنك شلت الثرى مرضاً
كنت تخضرُّ بالحزن
تقوى كعاصفة
قل: أعوذ بما ظل فيّ
إلى ألم
كنت فيه الربابةَ والجرحَ..»
علي الراعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد