مقاتل المسلمين والمسألة الطائفية
حدث تاريخي في السقيفة أسس للفتنة بين السنّة والشيعة على مدار خمسة عشر قرنا. هذا الحدث لم يتم تجاوزه ولا حصلت القطيعة معه، فاستمر إلى «العصر الرقمي». وبعد تصاعد الحروب في سوريا تكرر استخدام مصطلحات تحط من قدر الشيعة ومن قدر السنّة، وسط صمت أهمل الفكر والثقافة. هنا قراءة لمحنة المسلمين، اعتمادا على ما خلص عليه جورج طرابيشي.
خلص المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي إلى «أن الطائفية في الإسلام ليست حدثاً طارئاً ولا مصطنعاً بعامل خارجي: فهي قديمة قدم الإسلام نفسه. وحتى لا يبدو وكأننا نحمِّل المسؤولية للدين بما هو كذلك، فلنقل إنها ثابتة من ثوابت الإسلام التاريخي، بل هي الثابتة الأكثر استمرارية فيه، وإن خمدت جذورها أو اتّقدت تبعاً لتقلب موازين القوى الممسكة بمقاليد السلطة والدولة».
قد يرى البعض في هذه الخلاصة تحاملاً إيديولوجياً على المسلمين، لكن الوقائع التاريخية الممتدة لقرون تبرهن على فاعلية الطائفية في تحديد الخصائص التي طبعت تاريخ المذاهب والطوائف في الإسلام التاريخي والإسلام التراثي، الذي تضمن أدبيات وفتاوى في تكفير المذاهب، سواء عند السنة أم الشيعة.
حدد الخلاف الذي ظهر بعد وفاة الرسول، وكان مسرحه اجتماع السقيفة، الملامح الأولية للانشقاق السياسي/ القبلي، وشكل هذا المسرح تحولاً خطراً في حياة الجماعة الإسلامية الأولى، لما أنتجه من صراعات تركت تأثيراً دراماتيكياً على المستويين الديني والسياسي.
الفتن والإسلام التاريخي
بدأ «الانشطار السني ـ الشيعي» سياسياً خالصاً، ولكن بالغ العنف، مع حرب الخلافة التي تتالت فصولها في وقعتين رئيستين، دارتا في عام ستة وثلاثين للهجرة بين علي بن أبي طالب، ابن عم الرسول وختنه، من جهة أولى، وبين عائشة بنت أبي بكر، زوجة الرسول، ومعاوية بن أبي سفيان من جهة ثانية. وفي هاتين الوقعتين، الجمل وصفين، خلَّف الاقتتال عشرة آلاف قتيل في أولاهما، وسبعين ألف قتيل في ثانيتهما» (راجع: جورج، طرابيشي، هرطقات (2) العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2008، ص 12). لعلّ الاقتتال بين المسلمين الذي طبع مسار الإسلام التاريخي مع تعاقب الخلافات والوصايات، أدى إلى تدشين خريطة اتسمت بالفتن واحتدام التنافس السني ـ الشيعي. وعلى الرغم من التفاوت في حدتها بين حقبة وأخرى، لكنها أبقت على نزعتها الاحترابية، السياسية/ الطائفية.
لم يقتصر الصراع السني ـ الشيعي على الفتن والحروب المتنقلة، كان لـ «حرب الأقوال» - على حد تعبير طرابيشي - وقع أشد خطورة، لا سيما ما يتعلق بالفتاوى ومواقف المذاهب من بعضها البعض لدى السنة والشيعة على حد سواء. يقول أحمد بن حنبل في «كتاب السنة»: «ليست الرافضة من الإسلام في شيء». وروي على لسان علي بن عبد الصمد أنه قال: «سألت أحمد بن حنبل عن جارٍ لنا رافضي يسلّم عليّ أردُّ عليه، قال: لا». وسيحكم الإمام الإسفراييني في «التبصير في الدين، وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين» بخروج عموم الشيعة من الإسلام بقوله: «إن جميع فرق الإمامية... ليسوا على شيء من الدين، ولا مزيد على هذا النوع من الكفر». وفي كتابه «منهاج السنة النبوية»، أفتى ابن تيمية في الإمامية بأنهم «شر من عامة أهل الأهواء وأحق بالقتال من الخوارج» لأنه إذا «كان الخروج من الدين والإسلام أنواعاً مختلفة، فإن خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير». وأفتى الميرزا جواد التبريزي في صراط النجاة: «الناصب هو الذي يظهر العداوة لأهل البيت عليهم السلام، ولا حرمة لدمه، وأما سابُّ النبي والإمام (صلوات الله عليهم) فقتله واجب مع الأمن من الضرر». (راجع: العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، ص 34-40).
وفي كتاب «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» يقول المحقق البحراني: «ومن أظهر ما يدل على ما ذكرناه ما رواه جملة من المشايخ عن الصادق (عليه السلام) قال: «الناصبي شر من اليهودي. فقيل له وكيف يا ابن رسول الله؟ قال إن الناصبي يمنع لطف الإمامة وهو عام واليهودي لطف النبوة وهو خاص، «فإنه المراد بالناصبي هنا مطلق من أنكر الإمامة كما ينادي به قوله «يمنع لطف الإمامة». وقد جعله عليه السلام شراً من اليهودي الذي هو من جملة الكفر الحقيقي بلا خلاف». وفي كتاب «الكافي» (الأصول) «باب فرض طاعة الأئمة» يورد الشيخ محمد بن يعقوب الكليني: «علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن أبي سلمة عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سمعته يقول: نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمناً، ومن أنكرنا كان كافراً، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء».
في بدايات القرن الحادي والعشرين أدى الاحتداد السني ـ الشيعي، خصوصاً بعد الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، إلى تفاقم النزعة الطائفية وزيادة منسوب «الاستقطاب» بين المسلمين؛ استقطاب لا ينفصل عمّا هو جيو ـ استراتيجي؛ فالصدام السني ـ الشيعي، الذي يتغذى من الصراع الإقليمي على النفوذ، ومن الحروب الجديدة، ومن فتاوى التكفير في بطون كتب التراث، آل إلى تعاظم المسألة الطائفية بمركباتها الاستبدادية والدينية، على وقع انهيار الدول والمجتمعات والحضارة، وإعادة تشكيل هويات دينية أشد تطرفاً، تتحصن خلفها الأنظمة السياسية التي توظف العصب المذهبي للحفاظ على سلطتها وامتيازاتها، وتستعين بالجماعات المسلحة المشاركة في الصراعات القاتلة. لقد تركت الحروب الدائرة في العالم العربي أقله منذ حرب الخليج الأولى وحتى الحرب الدائرة الآن في سوريا عدداً كبيراً من الضحايا بين المسلمين، صحيح أنها مرتبطة بأسباب سياسية، لكننا لا يمكن أن نغيب المعطى الديني، توظيفاً وممارسة، ما أضفى عليها طابعاً دينياً، فارتكبت المجازر تحت رايات المقدس السني والشيعي.
الطائفية في الميديا الجديدة
في دراسة حملت عنوان «حروب تويتر الطائفية: الصراع والتعاون السني ـ الشيعي في العصر الرقمي» (مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 2015) تلاحظ الباحثة الأميركية ألكساندرا سيغل «أن اللغة المعادية للشيعة أكثر شيوعاً على الإنترنت مقارنة مع اللغة المعادية للسنة، أو المناهضة للطائفية (...) وفي السنوات التي تلت تصاعد الحرب الأهلية السورية، تكرر استخدام ستة مصطلحات رئيسة مهينة، للحط من قدر المسلمين الشيعة على الإنترنت: رافضة، وحزب الشيطان، وحزب اللات، ومجوس، ونصيرية وصفوية (...) وفي الوقت نفسه، أصبح العديد من الافتراءات أكثر شيوعاً لوصف المسلمين السنة في الخطاب الطائفي: وهابي، وتكفيري، وناصبي، وأموي». والحال إلامَ يؤشر ذلك؟ إن تراكم الفتن والإقصاء الديني والسياسي وتكفير المسلم الآخر، عزز الطائفية لدى الجمهور - المنقسم على وقع التنافس الإقليمي - فتركت تأثيراً لافتاً في الميديا الجديدة، لا سيما لدى بعض الفئات الشبابية الأكثر استخداماً لها.
ما زال الموروث الفقهي/ التكفيري بين السنة والشيعة حاضراً في مجال الوعي العام، وهو يتصاعد تصاعدا هستيريا، ما يجعل مواجهة المسألة الطائفية أمراً صعباً وملحاً في آن. هذه المواجهة تبدأ بإصلاح التعليم الديني وبناء دولة المواطنين وتكريس مساحات التعايش بين المسلمين، والكفّ عن استنزاف الدين في الصراعات الإقليمية والسياسية المحلية. والأجدى للخطاب الديني الرسمي الخروج عن علم البدع، والتأسيس لفقه إسلامي/ حداثي ينظر إلى المكوِّنات الدينية كجزء أصيل من حركية الإسلام وثرائه.
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد