مجلس كنائس الشرق الأوسط وسياسات الدين
الخبر الذي أعرِضُ له هنا بالمراجعة والتدبّر ليس مثيراً أو شاذاً، بل يبعث على التأمّل. ومفاده أن المشكلات التي يعاني منها مجلس كنائس الشرق الأوسط منذ حوالي العقد من الزمان، وصلت الى ذروتها أو حضيضها في العامين 2007 و2008، بحيث تضاءلت نشاطاته اللافتة والمستمرة منذ ثلاثة عقود، وصار عُرضة للإقفال أو الانتهاء الى صمت مطبق. فقبل شهرين أعلن عن البدء في تسريح الموظفين القلّة في مكتبه الرئيسي ببيروت. ومجلس كنائس الشرق الأوسط أنشئ عام 1974، وهو بمثابة - أو كان بمثابة - ذراع لمجلس الكنائس العالمي، المنشأ بدوره في أواخر الأربعينات من القرن العشرين. ولمن لا يعرفون، فإن مجلس الكنائس العالمي يضم الكنائس البروتستانتية التقليدية الكبرى، والكنائس الأرثوذكسية. أما الكنيسة الكاثوليكية فهي مراقب فيه. وجاءت المبادرة لاقامة مجلس مختص واقليمي للكنائس ذاتها في الشرق الأوسط، في مطلع السبعينات من القرن الماضي، لبروز الحاجة الى عناية أكبر بمشكلات الكنائس المسيحية في المنطقة، والتحديات التي تتعرض لها، وللانصراف لعناية أكبر بالتحدث الى المسلمين. وفي التسعينات من القرن الماضي، دخلت الكنائس الكاثوليكية عضواً أصيلاً فيه. ومن خلال مجلس كنائس الشرق الأوسط بالذات، ما عرفنا نحن المسلمين نشاطات مجلس الكنائس العالمي فقط، بل عرفنا بالدرجة الأولى حواراً شاسع الآفاق، التقينا في حلقاته وندواته ومؤتمراته وبياناته رصفاءنا من المسيحيين العرب على اختلاف أقطارهم ومذاهبهم ومآربهم وتوجهاتهم. واستطعنا - أو استطاع المعنيون منا لأسباب مختلفة - الوصول الى قواسم مشتركة في مسائل شتى، أهمها قضية فلسطين، وقضايا العيش التاريخي والمتجدد للدينين المسيحي والإسلامي في المنطقة العربية، والعالم الإسلامي من ورائها. وتوالى على منصب الأمانة العامة للمجلس أرثوذكس وبروتستانت، وأمينه العام الحالي قبطي مصري. وقد كانت للمجلس في العقدين الأخيرين نشاطات نوعية تركزت على الشباب، وليس الشباب المسيحي من مختلف كنائس المنطقة ودولها وحسب، بل اللقاءات الدورية بين الشبّان المسيحيين، والشبّان المسلمين، والتي ناقشت وتناقش قضايا مهمة وحساسة، تحتاج الى التواصل بالفعل بين أبناء الجيل الجديد، وتتخطى الاهتمامات العابرة لوسائل الإعلام المحلية والاقليمية والدولية.
وهناك ثلاثة أمور ما كنّا نحن المسلمين نأبه لها أو تثير لدينا أسئلة واستفهامات، أولها أن الانفاق على مجلس كنائس الشرق الأوسط ظل بنسبة 85 في المئة منه يأتي من مجلس الكنائس العالمي. أما الكنائس المحلية أو الاقليمية فهي تسهم باشتراكات ضئيلة، علمت أن بعضها ما عادت تدفعها رغم ضآلتها. وثاني تلك الأمور أنه كان هناك تنافس كبير بين الكنائس المشاركة على منصب الأمانة العامة، ولا شك في أن ذلك أثّر من حين لآخر في حماسة بعض الكنائس الصغيرة للإسهام والمشاركة. وثالث تلك الأمور أن الكنائس البروتستانتية الكبرى المموّلة، تضاءلت حماستها منذ أكثر من عقد، وبذلك قلّت إسهاماتها المادية على الادارة والنشاطات.
ولا شك أن السبب المادي، أي العجز عن الانفاق على النشاطات ومتابعتها، مهمّ في سياق تعداد العِلل التي يعاني منها مجلس كنائس الشرق الأوسط، لكنه ليس سبباً كافياً. يقال مثلاً في تعليل إعراض الكنائس المؤسسة عن الدعم والإسهام، إن تلك الكنائس انصرف عنها المعتنقون فقلّت مداخيلها وقدراتها، وذلك بسبب ثوران الانجيليات الجديدة، والتي اندفعت الأجيال الجديدة باتجاهها. بيد أن الأهم من ذلك امكان أو احتمال ضياع البوصلة والاتجاه، وتضاؤل احساسات الهوية والرسالة لدى تلك الكنائس. فحتى المعمدانيون، وهم أصوليون أساساً، ما عاد «الشباب المؤمن» أو «المولود ثانية» يُقبِل عليهم. لكننا نعلم أن السياسة الأميركية، ومنذ أيام ريغان، استنصرت بالمسيحيين الجدد والقدامى، وجددت لديهم الاحساس بالمسؤولية عن مصائر الدين وعن تأثيراته. ولا يزال الارثوذكس في شرق أوروبا، والكاثوليك في أميركا اللاتينية وأفريقيا، يتذمرون من اختراق الكنائس البروتستانتية لجماعاتهم، ومكافحتها لمطامح تكاثرهم وتجددهم ضمن هويتهم الخاصة والمميزة. واذا كان الأمر كذلك، أي أن البروتستانتيات ما خمدت، فهل يكون للفشل الاستراتيجي الأميركي تأثير على اندفاعها في منطقتنا بالذات؟! أو أن الانجيليات الجديدة والمندفعة والقادرة، فقدت احساساتها التبشيرية في منطقتنا بالذات؟ الراجح أن السبب لا هذا ولا ذاك، بل الاحتمال الذي يرد على الذهن ذو جناحين: النهوض الارثوذكسي الروسي الذي ينتهج سياسات ذات منحى قومي بالداخل، ومنحى آخر يمضي باتجاه الكاثوليك بأوروبا، ويدير ظهره للبروتستانتيات حديثها وقديمها. والجناح الآخر أو الشق الآخر من مسألة التغير في التعامل مع مجلس كنائس الشرق الأوسط، أن تلك الانجيليات ما عادت تنظر اليه باعتباره السياق الملائم لتوجهاتها واطروحاتها ورسائلها أو رسالاتها، فالمجلس يتعامل مع قضايا العيش المسيحي، والعيش المشترك في الشرق العربي والاسلامي، من منظور آخر غير بشوش تجاه السياسات الأميركية، وغير بشوش تجاه صهيونيات وغرائبيات الانجيليين الجدد. ولذلك يتردد هؤلاء - وهم على أي حال غير ممثلين في مجلس الكنائس العالمي، ولا في مجلس كنائس الشرق الأوسط - في دعم الجسم الذي لا يتفاعل معهم، ولا يلبي رغباتهم وطموحاتهم. أما الكنائس التقليدية الكبرى، وعلى رغم تراجع امكاناتها المادية والدعوية أو التبشرية، فإنها لا ترى ضرورة للاستمرار في دعم مؤسسة ما عادت في كثير من الاحيان تستجيب بالقدر الكافي للأطروحات والطموحات. ثم إن هذه الكنائس صغيرها وكبيرها، وقديمها وجديدها، تستطيع الوصول المباشر الى أعضائها بالمنطقة ومساعدتهم، من دون حاجة للمرور بمجلس كنائس الشرق الأوسط، أو أي مؤسسة أخرى.
وعلى أي حال، وأياً تكن الأسباب لإعراض أعضاء مجلس الكنائس العالمي عن دعم مجلس كنائس الشرق الأوسط، فإن ذلك لا يعني أن المجلس ينبغي أن ينتهي، وعلى عادة العرب في التخوف من «المؤسسات التي صنعها الأجانب»! فالمسيحيون العرب سواء انتموا للأرثوذكسية أو الكاثوليكية أو للكنائس الشرقية الأخرى، يحتاجون الى هذا المجلس اليوم أكثر من أي وقت مضى. فلديهم -– وعليهم - مشكلات الهجرة، ومشكلات غربة الشباب عن الدين، ومشكلات العلاقة بالمسلمين. ولدى المسيحيين في العالم العربي أو المشرق العربي، أُطرٌ أخرى للتلاقي. لكنني أزعم أن هذا الإطار الودود والتشاوري أثبت جدواه وفائدته. ونبَّه المسيحيين في المشرق الى ضرورات التواصل والتقارب اللاهوتي والثقافي والاجتماعي. والذين أو اللواتي يقررون الهجرة لا يحول بينهم وبينها شيء في العادة، لكن حوافز التضامن تخلق إحساسات بالتماسك وبإمكانات العيش التاريخي والباقي وضروراته. وحتى العقليات والتطلعات التي اختلفت في العقود الأخيرة، ولدى المسيحيين كما لدى المسلمين، تُغَلِّب احتمالات التبادل والتواصل، في البيئات الملائمة، على نزعات الانكفاء أو التنافس أو الهروب. والمعروف أن «المدنيين» هم الذين يديرون المجلس، ولدى هؤلاء في العادة قدرات انفتاح على المسيحي الآخر، وعلى المسلم الآخر، تفوق ما لدى رجال الدين، فضلاً على أن علاقات المدنيين في المجلس بأرباب كنائسهم حسنة، لأنهم لا يُعيَّنون ولا ينشطون إلا برضاهم.
ولا يزال المجلس إطاراً رحباً وسياقاً ملائماً للتلاقي مع المسلمين. وصحيح أن الأصوليين من الطرفين لا يحبون الالتقاء بالآخر على أي مستوى، لكن المعرفة قادت وتقود في كثير من الأحيان الى التفاهم فالتعارف. وقد حضرت في العقدين الأخيرين لقاءات في إطار المجلس ومؤسساته الفرعية، كانت مجالاً للتناقش في أصعب الموضوعات وأكثرها حساسية. وقليلون هم الذين تغيرت أفكارهم أو وعيهم نتيجة لتلك اللقاءات، لكنهم جميعاً خرجوا راضين، وتجددت لديهم الحوافز للإغناء والاغتناء.
إن الذي أراه أن مجلس كنائس الشرق الأوسط لا يزال حاجة للمسيحيين العرب، كما للمسلمين عرباً وغير عرب. أما المشكلات المادية فلا ينبغي أن تشكِّل عقبة. ومن يحتاج لأمر حيوي مثل التضامن والاستقرار وتجديد العيش المشترك، فلن يعدم الوسيلة لتأمين متطلباته المادية، سواء اسهم المعمدانيون أم لم يسهموا في ذلك. وإذا كان المسيحيون يقولون إن لله مقاصده الخفية التي لا تُدرَك بالنظرة الأولى، فإن المسلمين يرددون على الدوام مقولة القرآن الكريم: «والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».
رضوان السيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد