مئـويـة سعيـد عقـل زمـن الشـاعـر أم زمـن مـادحيـه
صالة الاحتفالات في قصر الأونيسكو احتشدت بالحضور الذين لبوا بالمئات دعوة سيدة اللويزة للاحتفال بمئوية سعيد عقل. لكن التعامل مع قرن كامل ليس سهلاً والذين نظموا الاحتفال جاؤوا بالصيغة التي ظنوها أفضل. شاعر من كل بلد عربي. فاروق شوشة من مصر وكوليت الخوري التي ليست شاعرة وألقت نثراً من سوريا وحيدر محمود من الأردن وعبد الرحمن الجويع من المملكة العربية السعودية وجورج شكور من لبنان بالإضافة إلى فؤاد الترك الذي أرسل من مشفاه كلمة ألقتها عنه نجوى كرم ورئيس جامعة سيدة اللويزة الأب وليد موسى. الصيغة ملائمة للاحتفالية لكنها احتفالية أكثر مما يجب، بل هي على غرار احتفالات تتويج تفصلنا عنها عقود من السنين وظروف شتى. يمكن القول إن هذا التتويج لسعيد عقل يظلمه فمئة عام ليست زمناً سحيقاً ولا تضع الشاعر في ماض مطلق. لا ننسى أن بعضاً من رواد القصيدة الحديثة إن لم يجتز الثمانين فهو قريب منها. لا ننسى أن هذا الشاعر الذي بلغ المئة كان في يوم رائداً لحركة الرمزية وهي يومها ثورة في الشعر. لا ننسى أن الشعر الحديث لم يكن لولا أن سعيد عقل اختصر ما سبقه وأضاف إليه ما حمل بذور المستقبل، وبدونه لم تكن الحركة الشعرية الحديثة بالإمكان نفسه، بل إننا نستطيع أن نعتبر هذه الحركة مدينة لسعيد عقل وربما كانت هذه مناسبتها لتقر بالدين وترده، لذا تظلم صيغة الاحتفال سعيد عقل إذ تضعه في الماضي وتدرجه في الغالب في زمرة من الساخطين على عصرهم وعلى شعر عصرهم. نظلم سعيد عقل الذي اجترح ثورات حقيقية وغير حقيقية إلا أنه لم يكن في يوم من عبّاد الماضي، نظلمه حين نمدحه بشعر كان يمكن لأبي نواس العباسي أن يسخر منه لمدحه بهذه الخيل التي تحمحم والمضمار ينتظر أو نمدحه بأن الفرسان طأطأت وأن وجهه يطل كالقمر وأن نقول في معرض مديحه إن الرمح مطرح والسيف مجترح به الرؤوس تهوى وأن ننظم في ذلك أشعاراً من مثل أن الشعب والجيش والثوار مثلثه.. مثل هذا الشعر كان أثار سخرية مجدد كأبي نواس ومعه شعراء العصر العباسي ولا يكفي أن يكون سعيد عقل في نيف على المئة حتى يصح فيه مثل هذا القول. كان حرياً بمحبي سعيد عقل أن يطلبوا من فاعلين في الثقافة والشعر أن يردوا للشاعر الكبير دينه عليهم وعلى الثقافة برمتها وأن يقروا بتأثيره في مسارهم ومسار الأدب العربي كله وأن يتناولوا أثره بالتحليل والدرس.
ما لم يف به الشعر وفى به الغناء إذ مثل وديع الصافي الذي يقترب من عمر سعيد عقل وغنى لسعيد عقل بذلك الصوت العجائبي الذي نشعر معه أن الجبال تغني وأن هذا الصوت يعتمل في ذات كونية وأنه يصدر عن لا مكان.
في ظني أن وقفة وديع الصافي على المسرح أظهرته كاهناً للفن مفجراً ذلك العمر المديد في فضاء الصالة وقد استحال إلى طاقة وإلى لحن وإلى نور. هكذا يمتدح سعيد عقل وهكذا يزهر عمره ويتشعشع في مئويته وهكذا يخاطب الزمن من موقع الامتلاء به والفيض بما فيه والتأله في حضرته. وقفة وديع الصافي على المسرح كانت قدموس ورندلى في لحظة واحدة، إذ ذاك انتبهنا أن سعيد عقل لا يواكب في مئويته بشعر لا ينجح إلا في أن يجعلنا نتحسر على شعره فخلال كل هذه القصائد كنت أسمع في خلدي رائعته في شولوخوف وأشعر بأن كل هؤلاء الذين يصطفون خلفه ويتخلفون عنه إنما يجعلوننا نرى الآن، وبأوضح صورة، جدته وشباب شعره وألق هذا الشعر بالنسبة لهؤلاء الذين يتوسلونه لمدح أنفسهم وتبريرها.
عباس بيضون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد