قصص تكتب عن نفسها
يجمع ج م كوتسي واحداً وعشرين مقالاً نقدياً نشر في «نيويورك تايمز» في كتاب صدر عن دار هارفل سيكير، بريطانيا. «عوامل داخلية» لا تشير الى الكاتب وحده بل ايضاً الى القارئ الذي توقفه تجاربه عند عناصر معينة في العمل من دون غيرها. قراءة الكاتب الجنوب افريقي «المؤامرة ضد اميركا» لفيليب روث قد تلقي ضوءاً على رواية «الرجل البطيء» لكوتسي التي لا نعرف فيها ما اذا كانت شخصية اليزابيث كوستيلو تكتب السيرة أو تخبرنا ان حياته رواية لا أكثر. يقول كوتسي ان كاتباً متمرساً مثل روث يعرف ان القصص التي نبدأ بكتابتها تبدأ بكتابة نفسها احياناً فلا تعود حقيقتها أو زيفها تحت سيطرة المؤلف. وما ان ينشر الكتاب حتى يصبح ملك القراء الذين يغيرون معناه وفق رغباتهم ومفاهيمهم المسبقة. يذكرنا فيليب روث انه على رغم ان فرانز كافكا لم يكتب رواياته كقصص رمزية سياسية فإن الأوربيين الشرقيين قرأوها كذلك خلال الحكم الشيوعي. «الرجل البطيء» اذاً مفتوحة للتفسير والمزاج الخاصين بما يقابل «التاريخ» أو الواقع الموضوعي.
إثر اختلاط الخريطة الثقافية والعرقية في القرن العشرين في بعض الكتّاب فذهب البولندي اليهودي جوزف روث الى مدرسة ألمانية، ومثل الكاتب التشيكي اليهودي ايضاً فرانز كافكا الاغتراب الثقافي ونذير التغيير الذي قارب النبوءة. يستعير كوتسي الذي هجس بالهوية والاغتراب عبارة من «البعوض» لوليم فوكنر. «الكتاب حياة الكاتب السرية، توأم الرجل المظلم، وأنت لا تستطيع مصالحتهما». في مذكراته تحدث كوتسي عن نفسه بصيغة الضمير الغائب كي يصالح حاجة الكاتب الى البوح وحرص الفرد على الخصوصية: «لو كان شخصاً أكثر دفئاً كان وجد كل شيء أسهل: الحياة، الحب، الشعر». الكاتب الأميركي جون ابدايك وجد ايجابية في برود كوتسي. الإيجاز. وكوتسي نفسه ميّز البرود حيث يخفى على البعض. قال ان شاندران المشعوذ وابنه العاشق المقصّر في «نصف حياة» لنيبول «قد يبدوان مادة هزلية ولكن ليس بين يدي نيبول. لكن نيبول دائماً سيد النثر التحليلي، ونثر «نصف حياة» املس وبارد كالسكين». يقابل كوتسي إذاً بين الكوميديا والتحليل الجاد، ويمدح بصرامته المعهودة الكاتب الإنكليزي غراهام غرين للجمه الشعر عندما يصبح ناتئاً. يعجب بنص سول بيلو «الجريء السريع اللاهث» في «مغامرات اوغي مارتش» ويرى ان زميله الأميركي فيليب روث يبلغ ذروات شكسبيرية عندما يكون في افضل حالاته.
> ثمة رواية لن يكتبها ايان ماكيوان. جاهزة، وفي متناول القلم لكنه ليس صاحبها. قبل خمسة أعوام اتصل عامل بناء بالكاتب البريطاني وأخبره قصة. تحمس وصدم ثم حزن. الكاتب الذي يهجس بالمصير في حياة الناس عاش طوال حياته على بعد ثلاثين كيلومتراً من شقيق سري. ولد ديفيد شارب في 1942 من علاقة ديفيد ماكيوان وروز وورت التي كان زوجها يقاتل في شمال افريقيا. تخليا عنه تجنباً للفضيحة، وسلّماه للثنائي الذي تبناه في محطة ريدينغ للقطارات. بعد عامين قتل زوج روز في الحرب العالمية الثانية في بلجيكا فتزوجها ديفيد وأنجبا ايان في 1948، لكنهما أبقيا طفلهما الأول حبيس الجانب المظلم من الذاكرة. كان والدهما توفي عندما اكتشف ديفيد شارب شقيقه ايان ماكيوان، لكن الأم كانت حية وميتة معاً «في تلك اللحظة الهامة التي كان يمكنه مقابلة احد والديه، كانت هناك، حية ولكن غائبة» قال الكاتب الذي باح بوجود شقيقه اخيراً. أصيبت روز بالخرف منذ اعوام ودخلت ظلاماً لا يخترق. يفهم الكاتب شعور والديه بالعار لخيانة جندي يقاتل في الخارج، لكن الفجوة في حياته تؤلمه. ان يعيش قريباً من شقيق يجهل وجوده قصة أفضل من كل ما كتبه، قال الحائز جائزة بوكر. مرت فرص كثيرة لم يغتنمها والداه لإخباره، ولا يستطيع فهم سر يعيش حياة كاملة. ديفيد شارب الذي نغص اسرته الطبيعية يكتب اليوم قصته. عامل البناء ينتقل من رصف الحجارة الى صف الكلمات محاصراً بين جدارين موجعين متصلين. الماضي والحاضر.
> تتناول ا.ل. كينيدي في روايتها الخامسة «داي» الصادرة عن دار جوناثان كيب رجلاً لم تنته حربه بعد نهاية الحرب. هرب ألفرد داي الى القتال من والد عنيف ماكر ووالدة محبة ضحية، ووجد فيها حس الأمان بالانتماء الى طاقم الطائرة التي عمل مقاتلاً فيها. لم يجد الإحساس نفسه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، لكن اشتراكه في فيلم عنها بعد اربعة اعوام قدم له الفرصة ليكتشف الرجل الذي صاره. أسر في الحرب ووجد نفسه في استديو مماثل للمعسكر الذي سُجن فيه. ارتبك وكان عليه ان يذكر نفسه انه يحاكي التجربة الأليمة ولا يعيشها ثانية.
على رغم أجواء الحرب والموت، في الرواية مرح مر ومفردات استقتها كينيدي من الحقبة الزمنية ولغة العسكر ووضع داي النفسي. تتهم بالصناعة وتعترف انها تعيد النظر نحو 150 مرة في المخطوطة سواء للتفقيط او التغييرات الهامة. الكاتبة الغزيرة في الواحدة والأربعين اليوم، وإلى الروايات الخمس أصدرت أربع مجموعات قصصية وثمانية سيناريوات وكتابين غير قصصيين ومساهمات صحافية. ولدت في اسكوتلندا من أب انكليزي وأم ويلزية طلقا عندما كانت طفلة، وتجرب اليوم تقديم فقرة كوميدية على مسرح ناد كوميدي في غلاسغو: تقول عن فقرتها (المضحكة) انها «مسكّنة للألم» وتعزو غزارتها الى وحدتها. وحدها منذ كانت في السابعة عشرة و «إذا كنت طباخة سريعة، بلا اولاد أو كلب أو هر أو أحد تتكلمين معه ما الذي تفعلينه غير الكتابة؟».
> مع نشر «جناح فرنسي» و «ديفيد غولدر» في طبعتين شعبيتين عن دار فنتيج يتجدد الجدل حول لاسامية المؤلفة اليهودية. عندما نشرت «جناح فرنسي» التي تضم روايتين في فرنسا العام 2004 دعتها «لوموند» تحفة. تبعتها الترجمة الإنكليزية في بريطانيا بعد عامين وتصدرت لائحة الروايات الأكثر مبيعاً كالطبعة الفرنسية. على ان الناشر البريطاني حذف ما يسيء الى الكاتبة في المقدمة التي اتهمتها بأنها يهودية كارهة اليهود. ولدت ايرين نميروفسكي في اوكرانيا في 1903 وهاجرت مع أسرتها الى فرنسا بعد هبوب الثورة البولشفية. عندما نشرت روايتها الثانية «ديفيد غولدر» باتت نجمة وحوّل كتابها مسرحية وفيلماً. كانت في السادسة والعشرين وروت قصة يهودي فقير يثرى بعد مضاربات لا ترحم في حقلي الذهب والنفط، وإذ يحتضر ينتبه الى الخواء الروحي في حياته. يصف الثري وصديق له رو دي روزييه، حي اليهود حينها، بـ «الحي اليهودي القذر» (الذي) لا خير فيه». ويؤسس على هذا النقد، ونشرت نميروفسكي ككوليت اعمالاً في مجلات «كانديد» و «غرنغوار» و «جو سوي بارتو» اللاسامية لاتهامها بكراهية عرقها.
يرى المدافعون عن نميروفسكي أنها أرادت الانتماء الى المجتمع الفرنسي في الوقت الذي لم تطلب الجنسية الفرنسية إلا في آخر الثلاثينات عندما أحست ان هذه وحدها تحميها وأسرتها. في رسالة الى الجنرال بيتان، رئيس حكومة فيشي المتعاونة مع الاحتلال النازي في فرنسا، ذكرت انها يهودية لكنها لا تحب اليهود على انه لم يجبها. في 1939 اعتنقت الكاثوليكية في مبادرة يائسة، وكانت صرّحت لـ «ليه نوفيل ليترير» بأنها ما كانت كتبت «ديفيد غولدر» بالطريقة نفسها بعد تسلم هتلر السلطة لأن تصويرها السيئ للشخصية اليهودية كان سيعطي ذريعة للنازيين كارهي اليهود. الكاتبة اللبنانية الأصل كارمن خليل، التي كتبت سيرة متعاون مع حكومة فيشي، دافعت عن نميروفسكي بالقول ان ديفيد غولدر صورة انسان. «هناك اليوم يهود فاشيون في اسرائيل، والمهم ان يتوقف الناس عن التعامل مع اليهود كأنهم مقدسون». في النهاية، تقول خليل، يبرهن اليهودي المنبوذ في «ديفيد غولدر» انه يملك قلباً أكبر من ذلك لدى النخبة المسيحية. ولا تنسى ان نميروفسكي نشأت في بيئة بورجوازية ثرية لاسامية في فرنسا.
اعتقلت ايرين نميروفسكي في صيف 1942 وتوفيت بعد شهر في اوشفيتز، بالتيفوئيد وفق الرواية الرسمية وبالغاز وفق «اكتشاف» اخير. نشرت اربعة عشر عملاً في حياتها، وبقيت الأعمال الأخرى في حقيبة في قبو فرنسي نصف قرن الى ان فتحتها ابنتها. ماثلت شهرتها شهرة كوليت واستوحت «الحرب والسلم» لليو تولستوي عندما كتبت «جناح فرنسي» عن أعوامها الأخيرة تحت الاحتلال الفرنسي. ترى خليل كتابتها غير كاملة غالباً ومفرطة في العاطفية احياناً لكنها امتلكت موهبة الاقتراب من القارئ الذي يستطيع الإحساس بلحم الشخصيات مهما كانت شريرة وغبية.
أ. ل. كينيدي
ج. م. كوتسي
ديفيد شارب وإيان ماكيوان
ايرين نميروفسكي
مودي بيطار
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد