في سورية متقاعدون محظوظون وآخرون.. الشجار بحثاً عن مكانة مفقودة
يقلّك أبو النور في سيارة الأجرة التي يعمل عليها إلى أي مكان في دمشق، فهو يعرف شوارعها العريضة وحاراتها الضيقة عن ظهر قلب. أحياناً، لا يحسن السيطرة تماماً على السيارة، فيخطئ في الوقوف عند إشارة المرور. وتسمعه يتشاجر مع الشرطي، ويترحم على السنوات الطويلة التي عمل خلالها في الشرطة، يخدم بلده من دون أن يوجّه إهانة لأحد. يقول الرجل الذي ناهز عمره الستين: «لولا حاجتي إلى النقود لما عملت سائق تاكسي. هذه المهنة سببت لي التواء في ظهري».
وأبو النور مضطر للعمل بعد تقاعده، لأن الراتب الذي يتقاضاه، ويبلغ تسعة آلاف ليرة سورية (نحو مئتي دولار)، لا يكفيه لإعالة أسرته المكونة من زوجة وستة أبناء وأخت مريضة. «أنتظر حتى ينهي ولدي الأكبر دراسته الجامعية. وبعدها، يمكنني الاعتماد عليه في تأمين مصاريف العائلة»، يقول.
على رغم وضعه المادي الصعب، يعتبر أبو النور نفسه «محظوظاً»، فراتبه التقاعدي أفضل مما يتقاضاه زملاء له تقاعدوا قبله بسنوات. ذلك أن القانون الخاص بالمتقاعدين في سورية يميّز بين متقاعد وآخر، «التشريعات ساهمت من ناحية، بتحسين أوضاع المتقاعدين، ولكنها لم تكن كافية، بل تفتقر إلى العدالة في التوزيع. وما زال هناك ظلم يقع على من تقاعد قبل عام 2000»، كما يقول عدنان طبنج، وهو محام متقاعد عمل مستشاراً لدى محكمة الاستئناف في دمشق، موضحاً أحوال شريحة من المتقاعدين القدامى، ومنهم صديقه الثمانيني الذي يتقاضى مبلغاً لا يكفيه ثمناً لأدوية تلزمه. ويذكر المحامي أنه على رغم الزيادات، بقيت رواتب المتقاعدين قبل عام 2000، تتراوح بين 3 آلاف و5 آلاف ليرة سورية (66 و111 دولاراً)، بينما يحصل زملاؤهم المتقاعدون بعدهم، والذين شغلوا الوظائف ذاتها على 10 آلاف إلى 15 ألف ليرة سورية، أي نحو ثلاثة أضعاف ما يتقاضاه القدامى.
أثر التقاعد من الوظيفة في الحياة الأسرية كان موضوع رسالة أعدتها الباحثة أميرة عرقسوسي، لنيل درجة الماجستير في علم الاجتماع في جامعة دمشق. والبحث الذي نشر أخيراً في مايو (أيار) الماضي خلص إلى أن التقاعد يؤثر سلبا ًفي العلاقة مع الشريك، وبخاصة لدى المتقاعدين الذكور، فبقاؤهم أوقاتاً طويلة في المنزل يجعلهم يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة، من الشؤون المنزلية والأسرية. وهو الأمر الذي يفضي إلى خلافات مع الشريك (الزوجة).
وترجع الباحثة أسباب هذه الخلافات إلى الضغط النفسي الذي يعيشه المتقاعد نتيجة إحالته على «المعاش»، ودخوله مرحلة جديدة مصحوبة بتغيرات، أهمها زيادة أوقات الفراغ، وإحساسه بالملل والوحدة وفقدان المكانة الاجتماعية. وقد يترافق ذلك مع ضعف في الإمكانات المادية، يولّد « ضيق النفس» والشجار، ويؤدي إلى نوع جفاء وتباعد بين الطرفين.
ويركز البحث على أهمية تفهّم زوجة المتقاعد أو زوج المتقاعدة، طبيعة المرحلة الجديدة، بكل ما فيها من اختلاف كبير ومفاجئ عما اعتاده (أو اعتادته) لسنوات طويلة. ويلفت إلى أن الدعم النفسي الذي تقدمه أسرة المتقاعد، يساعد على امتصاص التوتر، الذي يحل بالمتقاعد، وخصوصاً في المرحلة الانتقالية. والتخفيف من الآثار السلبية للتقاعد يتطلب أن يتفهم الشريك والأبناء أيضاً، طبيعة المرحلة وتغيراتها. ومن المفيد أن يظل يشعر بقيمته ومكانته بين أفراد أسرته، بالاعتماد على خبراته وتجاربه قدر المستطاع، واستشارته في الأمور المنزلية والقرارات الشخصية.
ويلاحظ البحث أن التقاعد المتدرج، أي خفض ساعات عمل الموظف تدريجاً، أمر ينعكس إيجاباً على نفسية الموظّف - المتبطّل. وتشير الباحثة إلى ضرورة أن يقتنع المتقاعد بأن التقاعد سنة الحياة الوظيفية، فهو أمر سيحلّ يوماً، على أي موظّف مهما علا مركزه أو صغر. لذا ينبغي ألاّ يكون التقاعد «شبحاً»، بل وسام شرف يبدأ بعده الإنسان حياة جديدة.
وتدل نتائج البحث على ضرورة أن تهتم الحكومات بالتوعية إلى شؤون التقاعد، لتغيير الفكرة السائدة عن المتقاعدين بأنهم أناس غير منتجين وهامشيين، ينتظرون مصيرهم. فتستبدلها بصورة أكثر إيجابية توضح إمكان الاستفادة من خبرات الذين أمضوا سنوات طوالا في العمل، وتلقي الضوء على خبراتهم في مؤتمرات وندوات. وتشدد نتائج البحث على أهمية وجود مؤسسات اجتماعية، يعمل فيها اختصاصيون مؤهلون لمساعدة الموظف، قبل سنوات من تقاعده، على الاستعداد لمرحلة التقاعد، من خلال تقديم النصح وعرض نماذج واقعية، في محاولة لإقناعه بأهمية التخطيط المبدئي لتقاعده، علّ ذلك يسهم في التخفيف من وطأة الفراغ والملل، والمخاوف بعد الخروج من الخدمة.
لينا الجودي
المصدر: الحياة
التعليقات
الجياد الهرمة
العضو الذي
فكرة بحاجة نقاش
عربة اسمها الرغبة
إضافة تعليق جديد