في سورية حيث نشأت أول المدن واخترعت أول الأبجديات:
الجمل: تتركب كل ثقافة من ثلاثة مكونات، هي: منظومة القيم، العناصر المادية، والمؤسسات الاجتماعية. ويهتم الباحثون والدارسون للثقافات بهذه المكونات الثلاثة، لجهة اعتبارات وجودها، ونشوئها، وتطورها، ومصادرها، وطريقة توزيعها الجهوي الجغرافي والفئوي، وكيفية تأثيرها وتأثرها مع بعضها البعض، ومع الجوانب الأخرى.
يعتبر القطر العربي السوري من المناطق التي تتميز بأهميتها المركزية في الثقافة الإقليمية الشرق أوسطية، وأيضاً الثقافة العالمية، وذلك بسبب العراقة التاريخية الراسخة القدم التي تتميز بها معطيات الخبرة التاريخية السورية.. ففي سوريا نشأت أولى المدن التي تجمع فيها البشر، على النحو الذي أدى إلى نقل المجتمعات الإنسانية من حالة البداوة الريفية إلى المدنية، كذلك في سوريا تم اختراع أول أبجدية، الأمر الذي أدى لنقل البشرية من حالة الأمية إلى المعرفة، ويضيق المجال هنا لذكر المنجزات الثقافية والمادية التي تمت في رقعة القطر العربي السوري.
كان للسوريين قصب السبق عن بقية شعوب العالم في اعتماد عناصر الثقافة المادية والمعنوية، بحيث أدمجوا معطياتها ضمن حياتهم اليومية، وذلك على النحو الذي جعل من هذه المعطيات المادية تمثل واحداً من أهم مكونات الثقافة السورية، وبسبب الموقع المتميز لسوريا في الحراك البشري لشعوب العالم القديم والوسيط، فقد انتقلت عناصر وسمات الثقافة المادية والمعنوية السورية إلى كافة أرجاء العالم، حيث اندمجت وتوطنت ضمن مختلف البيئات الثقافية العالمية.
تتضمن الثقافة المادية، أي ثقافة مادية، جانبين فرعيين أساسيين، هما:
• الثقافة الفولكلورية: وتتمثل في منظومة العناصر الثقافية التي تتبناها وتعتمدها المجموعات السكانية الصغيرة، التي تتميز بالانسجام والإقامة في نطاق مكاني جهوي جغرافي معين، وعادة ما تتضمن هذه العناصر الأزياء المحلية، والغناء والموسيقى والرقص والأدوات التقليدية الخاصة بهذه المجموعة السكانية المحلية.
• الثقافة الشعبية: وتتمثل في منظومة العناصر الثقافية التي تتشارك فيها مجموعة من الجماعات السكانية الصغيرة المحلية، بشكل تتقاسم فيه هذه المجموعات المتنوعة، عناصر تمثل قاسماً مشتركاً ثقافياً عاماً بينها.
وفي سوريا، نجد أن الخارطة الثقافية السورية، تتضمن (الثقافة الفولكلورية) بحيث يظهر في هذه الخارطة وجوداً ملموساً لعناصر ثقافية فولكلورية تميز عدداً من المناطق المحلية عن الأخرى، فهناك أزياء تقليدية خاصة في مناطق جبل العرب، وحوران، ومنطقة ديرالزور، والقامشلي... وغيرها. كذلك هناك أدوات موسيقية خاصة بمناطق الساحل السوري، والمنطقة الشرقية، والشمالية... وغيرها، ويمتد هذا التنوع ليشمل كل عناصر الثقافة الفولكلورية السورية.
أما بالنسبة للثقافة الشعبية السورية فنجد الكثير من العناصر التي تشكل قاسماً مشتركاً بين سكان سوريا، والحذر والاهتمام بالنظافة والنظام نجدها على السواء في المناطق المتخلفة والمتقدمة، وفي كل مجتمعات سوريا الاثنية والطائفية.
الاهتمام بدراسة الفولكلور السوري والثقافة الشعبية السورية، لم ياخذ حظه الكافي من العناية والاهتمام، وبإلقاء نظرة سريعة على الوضع الثقافي الراهن، نجد أن المؤسسات الجامعية لم تعط الاهتمام الكافي للثقافة المجتمعية السورية، وحتى الآن لم تسهم هذه المؤسسات بالقدر الكافي في تقديم البحوث الانتروبولوجية الثقافية، وغيرها من الدراسات الاجتماعية التي تفسر وتحلل وتتناول الثقافة السورية في عمقها الإنساني والحضاري والاجتماعي والتاريخي.
حتى الآن لم يتم وضع خارطة ثقافية لسوريا، ونعتقد أن المسوحات الثقافية الاجتماعية، سوف تساعد بقدر كبير في إنجاز مشروع الخارطة الثقافية السورية، وهي خارطة تكتسب أهميتها بسبب تحديدها لعدة جوانب، أبرزها:
الكيفية التي يتمركز بها الفولكلور والثقافة الشعبية ويتموضعان جغرافياً، وذلك على أساس اعتبارات:
- التوزيع المناطقي للعناصر الثقافية، مثل التوزيع الجغرافي للأزياء المحلية، والموسيقى المحلية، والرقصات المحلية.
- الأسس التي يقوم عليها توزيع العناصر الثقافية السورية، سواء تلك التي في الساحل، أو المنطقة الشرقية، أو جبل العرب.. وغيرها.
- الكيفية التي تتكامل بها العناصر الثقافية مع الخصائص الشعبية المحلية الأخرى.
- كشف وإبراز العلاقة بين عناصر الثقافة المادية الموجودة في كل منطقة سورية، مع عناصر البيئة الطبيعية، وذلك على النحو الذي يوضح ويفسر تأثيرات بيئة الساحل الطبيعية على عناصر الثقافة المادية الساحلية، وتأثيرات البيئة السهلية الرعوية على عناصر الثقافة المادية في المنطقة الشرقية.. وغير ذلك.
الخارطة الفولكلورية والثقافية الشعبية لسوريا، يمكن أن تقدم التفسير والتحليل العلمي الدقيق للجوانب الآتية:
• كيفية انتشار الثقافة الفولكلورية والثقافية الشعبية، ومدى ارتباط ذلك بالحراك الاجتماعي الإنساني الذي ظل ناشطاً في الأراضي السورية بدءاً من أقدم الحقب التاريخية وحتى الآن.
• تمييز وتحديد العناصر الثقافية الفولكلورية والثقافة الأصيلة السورية المنشأ، وتلك التي قدمت إلى سوريا عن طريق الهجرات.
• كشف تحليل الارتباط بين البيئة الطبيعية والثقافتين الفولكلورية والشعبية.
• الكيفية التي تشكلت بها المناطق الفولكلورية في سوريا، وما الذي جعل من الثقافة الفولكلورية السورية تشكل عنقوداً متميزاً، ترتبك حياته المجزأة مع بعضها البعض برغم انفصالها.. فعلى سبيل المثال يمكن الحديث في مجال الرقص عن وجود دبكة سورية، ولكن بالتعمق أكثر فأكثر يتضح أن هناك عدة دبكات سورية، تشبه بعضها، ولا تشبه بعضها في نفس الوقت، ونفس الشيء ينطبق على المطبخ السوري من حيث تشابه موضوعاته في العموميات وتباينها في التفاصيل.
إن إعداد الخارطة الثقافية السورية، يساعد بقدر كبير، الأجهزة والمؤسسات الرسمية على القيام بعملية التخطيط الثقافي، بما يدرأ عن هذه المؤسسات شبح الفردية، والعشوائية.
تمثل الثقافة الفولكلورية والشعبية عنصراً هاماً في تماسك المجتمع، والمحافظة عليهما وتطويرهما بالشكل الأمثل، يلعب دوراً هاماً في تحقيق حالة الازدهار الثقافي، فالقيم الثقافية السورية القديمة (الأسطورية) يمكن أن تشكل منبعاً لا ينضب وشرياناً حياً يغذي التأليف الروائي والشعري والموسيقي والسينمائي.
الثقافة الفولكلورية والثقافة الشعبية السورية أصبحت مثلها مثل بقية ثقافات العالم، تواجه الكثير من المخاطر التي تهددها بالتحلل والتفسخ والانقراض، وتنقسم هذه المخاطر إلى نوعين:
- مخاطر داخلية: وتتمثل في التجاهل والاهتمام وعدم اهتمام الأجهزة الرسمية والشعبية بالحفاظ على القيم الثقافية.
- مخاطر خارجية: وتتمثل بشكل أساسي في عملية العولمة الاقتصادية، والتي تتضمن بعداً ثقافياً خطيراً، يتضح تفاقمه يوماً بعد يوم عن طريق الموضوعات التي تبثها الفضائيات وأجهزة الإعلام العالمي، وتنقلها أجهزة الإعلام المحلية دون وعي وإدراك.
وعموماً يقول علماء الآثار بأن سوريا تجلس على كنوز هائلة من الآثار التاريخية، وعلى غرار ذلك نقول: إن سوريا لا تجلس على ذلك فحسب، بل يتحرك على أرض سوريا كنز هائل من الثقافات الفولكلورية والثقافات الشعبية، ولما كانت النار تأتي من مستصغر الشرر، فإن إنجاز الخارطة الفولكلورية السورية، سوف يكون الأساس الذي يمهد السبيل أمام الإنسان السوري لكي يبني ويؤسس لنهضة ثقافية عملاقة قادمة.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد