في أنّ البلادة مصيبة .. سمير عطا الله
يتدخل بابلو بيكاسو في مجريات السياسة اللبنانية وتفاهاتها امام مجرى التاريخ، لكي يلطِّف الوانها، ويخفف من عبثها، ويذوق سورياليتها الفاقعة، بظلال من المعقولية. على الاقل من حيث الشكل.
ففي الوقت الذي تهاوت الدولة في قممها، من العاصمة المثلثة في الخرطوم، الى العاصمة المعلقة هنا، كان القضاء يبرىء العميد سلطان ابو العينين، ويرفع عنه الاعدام ثم المؤبد مرة واحدة ومطلقة، دون المرور بأي خفض. وقد تقبل العميد ابو العينين الحكم بالعفو كما تقبل الحكم بالاعدام. بابتسامة تليق بما حدث في الحكم وفي النقض. فاذا كانت الادانة مسخرة تسخيرية في الاصل، هكذا تكون البراءة في النتيجة.
لقد دين العميد ابو العينين في زمن مضحك لشدة بلواه، وبرىء في مناخ تنقصه خفة الظل. في الزمن الاول، كان الفلسطينيون، وعلى رأسهم ابو العينين، اناسا "عرفاتيين". وكان ذكرهم ممنوعا الا في باب الاحكام والتعديات ومخالفة للقوانين المرعية الاجراء في دولة النظام والقانون والشفافية. وفي المقابل كانت هذه الدولة الخائرة والمتهتكة تستقبل الضيوف الرسميين وتودعهم وتعانقهم، وبين رموزها بعض عتاة صبرا وشاتيلا وذكرى لقبح مذابح الحرب. وعندما طلب ياسر عرفات "حق" الكلام في قمة بيروت عبر القمر الاصطناعي، تعطل محول العربانية عن الطلب، وصفق ضيوف القمة للشطارة اللبنانية.
نحن في زمن آخر اليوم. وفد وزاري يدخل الى المخيمات للمرة الاولى منذ 1948. والسيد انور رجا، الناطق باسم "القيادة العامة"، يقرّعنا، ويبخعنا، ويهددنا، ويؤدبنا، ويلقننا، ويملي علينا شروط المقايضة: الحقوق السياسية مقابل السلاح، داخل، وخارج، وبين بين.
الدولة الخائرة لا ترد. سببان: الاول، العقدة الموروثة من جميع الجمهوريات السابقة. عقدة الذنب والتقصير والتأجيل والتجاهل. الثاني، الجهل الذي يسيطر على تكايا السلطان وتنابل المحسوبية وكسالى العقل وبلداء الواجب. هؤلاء لم يكلف احد منهم نفسه ان ينفخ في كتاب العلاقة مع الفلسطينيين، لكي يقول للسادة المبخعين، ان قرار، او سياسة ابقاء المخيمات، ليس لبنانياً. انه استراتيجيا وطنية قومية رسمية فلسطينية، بابقاء المخيمات حيث وجدت في العالم العربي، لكي لا تضيع القضية ويتوه الفلسطينيون في مزارع اميركا وفبارك كندا ومحالج اوستراليا، لكن هذا القرار الفلسطيني التاريخي لا يقضي بأن نمنع على النازحين ادخال الاسمنت لاستبدال سطوح الصفيح. ولا هناك قرار بتحسين اي وضع من أوضاع المخيمات الغارقة في البؤس حيث ينمو الغضب والشعور بالاضطهاد ويزداد عدد الملتحين كلما شعروا انهم ممنوعون من العمل والبحث عن الرغيف.
الذاكرة الانتقائية قصيرة دائماً. وانتقائية! عندما قيل ان رفيق الحريري اشترى مليون متر مربع في "القريعة" لتوفير اقامة لائقة للفلسطينيين، هبت الدنيا هبة واحدة. انه التوطين ايها العملاء! ولكن ألا يمكن ان يكون محاولة لتحسين الظروف اللاإنسانية التي يعيش فيها الفلسطينيون؟ لاه لاه لاه انه التوطين ايها العملاء؟ ولكن هل يجوز ان يبقى هؤلاء البشر حيث هم؟ لمَ لا؟ نحن ضد التوطين، اقرأوا الطائف والحرص المميت على تطبيق حذافيره. حذفاراً حذفاراً.
لاعنو العمالة يطالبون الآن بالانتقام لأحوال الفلسطينيين المعيشية. والذين كانوا يمنعون ذكر اسم المحكوم سلطان ابو العينين في نشرات الاخبار، يتقدمون الاحتفال بتبرئته. والذين قصفوا المخيمات الفلسطينية بالراجمات طوال زمن هم الآن دعاتها وحماتها. لماذا؟ لأن الدولة الضعيفة والخائرة لا تفعل شيئاً سوى تقبّل الاهانات. ولذلك فان السيد انور رجا الذي كان يتهمها بتسهيل المشاريع الصهيونية الاستعمارية العرفاتية، يتهمها الآن بالتقصير الاجرامي في اعطاء الفلسطينيين "الحقوق السياسية" على ما أعلن الزائر المفاجئ احمد جبريل يوم السبت الزاهر، الذي اعقب يوم التبرئة، الذي اعقب يوم العقاب في مجلس الوزراء، الذي اعقب يوم لمعت السيوف في الخرطوم.
كنا نعتقد ان السيد احمد جبريل سوف يمهّد الطريق الى فلسطين. ليس. لقد فُهم من جولته على اركان الأمة انه يمهد الطريق الى دمشق، مفضلاً البدء بالمسعى الصعب. ذلك هو الآن حال العلاقة المميزة، حيث يخضع لقاء رئيس وزراء لبنان برئيس الدولة السورية للتشريح البروتوكولي: هل هو حقاً لقاء، أم مجرد التقاء يقع تحت باب الصدفة ولا يمهّد الى الميعاد؟
يتبادل لبنان وسوريا السلامات او المجادلات، على طريقة المطلقين. كل فريق يتذكّر فقط متى وكيف اساء اليه الفريق الآخر. ويقّدم كل فريق بيانه. وحتى عندما جاء ذكر مزارع شبعا قال الاستاذ فاروق الشرع "على المدّعي تقديم البينة". هل نحن مدّعون في شبعا أو زاعمون؟ مدَّعون على من؟ نحن نكاد نحرق البلد فيما بيننا بسبب مزارع شبعا. ولا بدّ ان اسرائيل تقهقه. اولاً بسبب ما آلت اليه العلاقة اللبنانية – السورية، وثانياً هؤلاء اللبنانيون الذين لا يغيرون عاداتهم. انهم مستعدون لمذبحة اخرى في اي لحظة، فيما يقول المرجع الاساسي في النزاع: تدّعوها؟ حسناً. بيّنوها.
مهلاً. مهلاً. دعونا نفهم شيئاً واحداً: هل شبعا خلاف مع سوريا، ام نزاع مع اسرائيل؟ لا. بصرف النظر عن أسباب التدهور، لم يعد جائزاً ان تتخطى العلاقة بين البلدين – وليس الدولتين – هذه الهوة الى هاوية اخرى. ومن الغفلة او اللؤم ان ننكر ان هذا الانقباض قد انعكس على العلاقة بين الناس، بحيث يقول متصل بالتلفزيون السوري انه اصبح "يكره ان يرى لوحة لبنانية". ولم يكن اللبنانيون اقل تعبيراً في تظاهراتهم او في برامجهم، عن دفائن نفسية قديمة.
لا يمكن لبنان، أمس واليوم وغداً، ان يهنأ بأي علاقة خارجية، اذا كانت علاقته مع سوريا سيئة او مقطوعة او متوترة. ولا يمكن لأي حكم في بيروت، ان يعيد الساعة زمناً الى الوراء، فيبعد سوريا عن اي معادلة سياسية او اقتصادية او وطنية او قومية. ولكن في المقابل لا يمكن لأي من حلفاء سوريا المحترمين أو الحقيقيين، او المهرجين او الثقلاء، ان يصححوا الخلل الهائل في العلاقة، من دون الفريق الآخر.
لن تقوم علاقة طبيعية سوية بين الجارتين، اذا ارتضت سوريا ان يكون هناك فريق وطني او اكثر، خارج هذه العلاقة او ضدها، فالمسألة لم تعد الآن مع "الانعزاليين" و"الرجعيين" بل مع الذين كانوا بالأمس يطلبون الوحدة مع سوريا ويبغضون رفضها. المسؤولية التاريخية في العلاقة ليست مسؤولية فريق واحد، انها مسؤولية فريقين ابتعد كل منهما كثيراً في الاتجاه المعاكس.
المبادرات العربية، من دوننا، لا تكفي. ولا يمكن تفعيلها من دون عودة النيات الحسنة الى الظهور، والرغبة الحقيقية في اقامة علاقة دائمة تأخذ في الاعتبار حقائق التاريخ ووقائع الجغرافيا، ولكن قبل اي شيء، حقيقة الانسان واوضاع البشر وخطوات المستقبل.
اننا امام خيار: اما ان نحول الماضي الى جسر تلاق نحو المستقبل، واما ان نبقيه على ما هو، سلاسل تكبل كلا منا ويرن صوتها في تذكّر الخلافات والآلام والمكاره المتبادلة. وتربح سوريا الربح النهائي عندما لا تظل العلاقة فرض التاريخ والجغرافيا، فكلاهما علة في جميع الامم. ولكن عندما تصبح علاقتها مع جميع اللبنانيين علاقة انتصار بهم جميعاً، وليس علاقة انتصار المجموعات متقلبة متغيرة وبلا حياء.
سمير عطاالله
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد