غادة السمان: نزار كان صادقاً مع نسائه
هاجسه الإبداع في كل حقل وليس الإعلان عن نفسه..فالدكتور صباح قباني فنان حقيقي لكنه لم يقم معرضاً جوالاً. وأديب مرهف لم يصدر بعد كتاباً، ورسام رائع لم يطبع (كتالوجا) وكراساً تعريفياً، ولولا كتابته لمذكراته لظل القارئ يظنه سفيراً استثنائياً سورياً في واشنطن لفترة سبعة أعوام.. ما المناسبة لما تقدم من كلام؟
أول ما طالعني ذلك الصباح كان رسماً كاريكاتورياً يمثل والدي الحبيب اللامنسي. على ورقة نبتت من جهاز الفاكس.. كنت في طريقي لإعداد قهوتي وأنا نصف نائمة حين تسمرت: إنه حقاً ابي بملامحه ونظرته وصلعته الجميلة الحبيبة وقامته المعتدلة وأناقته.
بنظرة واحدة. أدركت مدى مهارة الفنان الذي رسم الكاريكاتور فقد استطاع تقطير روح والدي في عدة خطوط بالأسود والأبيض.. ولم يدهشني أن مبدع الكاريكاتور هو الدكتور صباح قباني، الذي قدمته جريدة «تشرين» السورية التي نشرت كلمته عن أبي بقولها: «رجل أسهم في الحياة الإعلامية السورية باعتباره أول مدير عام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وفي الحياة الديبلوماسية كسفير لسورية في واشنطن خلال سبع سنوات «كانت الأصعب في الحياة الإعلامية السورية» كما ذكرت الجريدة، ولم يدهشني أن «سعادة السفير» هو صاحب ذلك الرسم الكاريكاتوري لأنني أعترف بحكم القرابة العائلية وصداقة الجوار الغابر في دمشق أن د . صباح رسام ومصور فوتوغرافي رائع أيضاً، وشاهدت نماذج من إبداعه كمصور في صور التقطها لصديقتي الحبيبة اللامنسية بلقيس الراوي قباني حيث أبرز الجانب الإنساني في روحها، وجمالها الداخلي قبل جمالها الخارجي الباهر.
الموضوعية العسيرة والحياد شبه المستحيل
حسناً فعلت «جريدة تشرين» بنشرها اللوحات العشر التي أبدعها د. صباح قباني رسماً وكتابة لبعض «أصدقاء العمر الجميل» وهم شقيقه الشاعر نزار قباني (الرسم يمثله في دمشق عام 1956) ووالدي (رسمه عام 1953) فهو قريبه وجاره، وفؤاد الشايب وعبد السلام العجيلي وشاكر مصطفى وأحمد عسة ونجاة قصاب حسن وسعيد الجزائري وجيمس أبو رزق والفنان عبد القادر الأرناؤوط، وكلهم من أصدقاء والدي وبعضهم من أحبابي إبداعياً (الارناؤوط أهداني رسماً لغلاف كتابي الأول عيناك قدري.. لكنني سأحاول مغادرة مشاعري الشخصية العاطفية وأنا أطالع تلك الأسماء والكتابة (بحياد) عنها وعن أسماء كثيرة وردت في مذكرات د. صباح (تقع في 106صفحات) وأذكر منها على سبيل المثال الدكتور أحمد منيف العائدي ـ عميد كلية الطب في دمشق ذات فترة ـ ووالد الاقتصادي المعروف د. عثمان العائدي وصاحب مدرسة «الكلية العلمية الوطنية» التي كان من تلامذتها كاتب المذكرات «د. صباح قباني» وشقيقه الشاعر نزار قباني، وعملت والدتي أستاذة فيها، كما كنت من تلامذتها ذات يوم وتربطني ووالدي بآل العائدي صلات حميمة من زمان، وما من اسم في المذكرات إلا ويعيدني إلى أحباب الأمس، لكنني لن أتدفق كالنهر شوقاً إلى الزمن الهارب بل سأعود إلى الكتاب الجميل، بحياد، قدر الإمكان، وبموضوعية عسيرة.
شقيقي نزار كان صادقاً مع نسائه
د. صباح قباني هو أدرى الناس بشقيقه، ونجده مدافعاً عنه بصورة غير مباشرة وناقلاً لأفكاره ولرأيه في الشعر.. ويتحدث عنه بحنان وحنين، ويصفه بأنه «في العاشرة كان يريد أن يصبح رساماً أو خطاطاً، وفي الثانية عشرة حاول أن يكون موسيقياً، وحين بلغ الثالثة عشرة أدرك أن قدره هو الشعر والشعر وحده» وأنه «لم يكن يستريح إلى الوصفات الجاهزة التي تلصق به أو بشعره كقولهم إنه شاعر المرأة أو شاعر الحب فلقد كان بالأحرى شاعر قضية سواء كانت قضية المرأة أو قضية الوطن» ويتطرق إلى العلاقات الشخصية لنزار بقوله: «كان في علاقاته العاطفية ملتزماً بمبدأ الصدق مع نفسه ومع من عرفنه».
متطرف في حب الآخرين
وقد نجح د. صباح في رسم شخصيات «أصدقاء العمر الجميل» وذلك في ماقل ودل، وبومضات قصصية ماهرة كأي روائي محترف.. إنه مثلا يرسم شخصية والدي كما عرفتها بومضة قصصية طريفة عن حادثة وقعت لوالدي حقاً يوم ذهب ليزور حيه الشعبي القديم. ونكتشف في «مرايا» صباح قباني (على وزن مرايا نجيب محفوظ) وفي مذكراته، أديباً بنثر مرهف مشرق سلس جذاب ولغة شعرية راقية مسكونة بالحنين.
د. صباح في لوحاته ومذكراته يرسم شخصية كل من الذين كتب عنهم على هذا النحو القصصي الراقي... وينصفهم ويفهمهم ويحبهم ويتأملهم.. فإبداع صباح قباني لاصلة له بالنرجسية بل بالتواصل الإنساني والرغبة في إنصاف الآخر لا لأسباب ديبلوماسية بل فنية إبداعية.. إنه يحب مراقبة العالم ويسلط الأضواء الكشّافة على الآخرين وليس على وجهه، فهو لايبحث عن الإعجاب بل عن المعرفة كأي فنان حقيقي.
العودة إلى زمن الياسمين
لوحات د. صباح، كما مذكراته نبشتني حتى قاعي، وأعادتني إلى زمن الياسمين في (الشام) والمذكرات تحمل عنوان «من أوراق العمر» والعنوان الفرعي: «مسيرة حياة في الإعلام والفن والديبلوماسية» وفيها نطالع مسيرة حياة د. صباح قباني، المؤسس للتلفزيون السوري والمنتمي إلى أسرة محكومة بأن تؤسس لإبداعات شتى.. فصباح قباني غصن في شجرة إبداع «مؤسسة» في الحقول كلها.
نبرة التواضع في مذكرات عربية!
والد د. صباح هو المؤسس لأول معمل لسكاكر «الملبس» الشهية، وجده أسس المسرح الغنائي العربي (أبو خليل القباني) وشقيقه نزار أسس مدرسة شعرية حديثة، وصباح أسس التلفزيون السوري بعد مرور مئة عام تماماً على تأسيس أبي خليل مسرحه، ثم إن د. صباح هو والد الأديبة اللامعة الدكتورة رنا قباني التي تكتب بالانكليزية أيضاً (خريجة أرقى جامعات أميركا وانكلترا) والمدافعة عن القضايا العربية في الغرب بذكاء وعلم وثقافة.
وبغض النظر عن كل ما تقدم عن اللوحات والمذكرات، فإنني أجدها تمتاز أولاً وقبل كل شيء بنبرة التواضع الاستثنائية التي يتحدث بها د. صباح قباني عن الآخرين وعن نفسه وعمره، وهذا أمر نادر في المذكرات العربية، إذ يصور لنا معظم كتاب المذكرات العرب أنفسهم وكأنهم بدلوا مصير العالم وأسمعت كلماتهم من به صمم وفي بيوتهم ومكاتبهم (أو مطابخهم أيضاً) دارت أحداث تاريخنا العربي المعاصر.. وإلى اللقاء في الأسبوع المقبل مع مذكرات تحمل روح دمشق عبر أصدقاء العمر الجميل.. وأوراق عُمُر صباح وعُمُرنا أيضاً.
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد