عُمان «تُحاصر» الموجة الاحتجاجية: طريق الإصلاح طويل
قدّمت سلطنة عُمان نموذجاً فريداً في التعامل مع الاحتجاجات الأخيرة التي عمّت مختلف محافظاتها، في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي. إذ توازياً مع قطعها الطريق على دخول أطراف خارجية على الخطّ، استطاعت استيعاب الصدمة عبر سلسلة إجراءات سريعة استهدفت امتصاص الغضب الشعبي، والتأسيس لمسار معالجة اقتصادية طويل الأمد. لكن على رغم ذلك، تبقى العِبرة في التنفيذ، الذي سيتطلّب جدّية كبيرة من السلطات، حتى تستطيع إقناع المواطنين بقبول برنامج التقشّف المطبّق حالياً
جاءت التظاهرات الأخيرة للباحثين عن عمل في سلطنة عمان بمثابة تذكير للسلطات بأن البلاد تمرّ بأزمة اقتصادية لن يكون علاجها سهلاً. صحيح أن ثمّة تضحيات مطلوبة من العُمانيين، ولكنّ الأولوية هي لتصحيح الاختلالات البنيوية، مِن مِثل إحلال عُمانيين مكان الوافدين في الوظائف، بالحدّ الممكن، ومكافحة الفساد الذي ينتفع منه كبار التجّار على حساب الناس العاديين والدولة، ومن ثمّ يمكن الطلب من المواطنين القبول ببرنامج التقشّف المُطبَّق حالياً، والذي سيكون، على ما يبدو، أوّل ضحايا الأحداث. مع ذلك، حجزت السلطنة لنفسها مكاناً بين أوائل الدول الخليجية التي تتيح لمواطنيها حرّيات نسبية في التعبير عن مظالمهم وآرائهم، بفضل تعاملها المتساهل مع تلك التظاهرات التي عمّت مدنها على مدى أسبوع في نهاية الشهر الماضي.
بداية المعالجة كانت الإقرار بوجود مشكلة بطالة ناجمة عن اقتصاد مأزوم، بدلاً من إنكارها، مع ما يستتبعه الإنكار من حرمان الشباب حقّهم في التظاهر للمطالبة بتأمين وظائف لهم، ثمّ البدء باتخاذ إجراءات الحلّ على المديَين القصير والطويل، وهي عملية لن تكون سهلة. إذ إن بعض القرارات يمكن تنفيذها فوراً، مع كلفة على الاقتصاد، كفَتْح المجال لتوظيف الباحثين عن عمل في الجهات الحكومية، وخاصة القوات المسلحة، لكن أخرى تحتاج إلى وقت، وهو حال مسألة توطين الوظائف مثلاً. لم يكن أمام السلطان هيثم بن طارق، الذي تسلّم الحكم في كانون الثاني 2020، في ذروة أزمة «كورونا»، خيار سوى مواجهة هذا التحدّي الأوّل له كسلطان. وساعد تدخّله المباشر، والإجراءات التي تمّ اتخاذها، في إنهاء التظاهرات بمثل السرعة التي بدأت بها. كما أمكن له أيضاً تحييد أيّ دخول محتمل على خطّ الاحتجاجات، التي ظلّت عُمانية المنشأ والأهداف، وغير سياسية، من البداية إلى النهاية، على رغم محاولات خارجية لأخذها في اتجاهات أخرى.
يدرك الحكم العماني أن السلطنة جزء من خليج مترابط اجتماعياً، نظراً إلى انتشار القبائل نفسها عبر الحدود، وتشابه أنظمة الحكم، وحتى المشكلات، وأن ما يحدث في إحدى دوله، يراقَب جيداً في الدول الأخرى، ويجري التفاعل معه من قِبَل مواطني تلك الدول وسلطاتها على السواء. وإذا كان مواطنو الخليج عادةً ما يتعاطفون مع أيّ تحرّك شعبي مطلبي في دولة مجاورة، فإن السلطات تخشى انتقال عدوى التحرّكات الشعبية إليها، ولذا فهي تعمل على دفع الدولة التي يجري فيها التحرّك، إلى قمعه. وبالفعل، نظرت السلطات في دول الخليج بعين القلق إلى ما جرى في السلطنة، تماماً كما فعلت مراراً في حال الكويت، بل تصرّفت السعودية والإمارات، الجارتان الحدوديتان لعُمان، على أنهما معنيّتان مباشرة بما يجري فيها. وبعد أن فشلت الرياض في دفع مسقط إلى قمع التظاهرات، نقلت سعيها إلى الإيحاء بنيّتها دعم الاستثمارات في السلطنة. وفي هذا السياق، جاءت زيارة وزير التجارة والصناعة العماني، قيس اليوسف، للرياض، والتي تزامنت مع أنباء عن تحرّك خليجي لدعم مسقط.
لكن تجارب عُمان السابقة مع دول الخليج غير مشجّعة. فبعد احتجاجات 2011 التي أثارت رعباً لدى تلك الدول من انتقال الأحداث إليها، خاصة مع صعود جماعة «الإخوان المسلمين»، وعدت أنظمة الخليج بإنشاء صندوق لدعم السلطنة والبحرين بمبلغ 10 مليارات دولار لتجاوز الأزمة الاقتصادية ومواجهة الاحتجاجات، لكن هذا الصندوق لم يرَ النور، لأن الأنظمة المهيمنة اطمأنت إلى مستقبلها إثر سقوط حكم «الإخوان» في مصر، والذي ساهمت فيه بنفسها من خلال قطع الدعم عن القاهرة في سنة حكم الجماعة. صناعة النفط في عُمان أصغر ممّا هي عليه في غالبية دول «مجلس التعاون الخليجي»، وتُمثّل نحو ثلث ناتجها المحلي الإجمالي. وفوق ذلك، أدّت الصدمات المتمثّلة في انخفاض أسعار النفط وأزمة «كورونا»، إلى خلل في الموازنة العامة، بحيث اضطرت الحكومة لمزيد من الاقتراض، ليتسارع نموّ الدين العام، حيث أظهرت وثيقة لوزارة المالية العمانية أن السلطنة تتوقّع أن يبلغ هذا الدين 56.37 مليار دولار في نهاية 2021، أي ما يزيد عن 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، الذي انكمش بنسبة 6.4 في المئة في عام 2020، لكنه يُتوقّع أن يتعافى قليلاً في العام الجاري، بفضل تحسّن أسعار النفط.
انتهت التظاهرات، لكن هذا لا يعني أن المشكلة ستختفي. فالحقائق الاقتصادية الصعبة تشير إلى أن رحلة المعالجة ستكون شاقّة، فيما لا يزال العمانيون ينظرون بعين الحذر إلى الوعود التي تلقّوها، خاصة أنها ليست المرّة الأولى التي يوعَدون فيها بمثلها، وفق ما يُظهر تفاعلهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي الأزمات، تتفتّح الأعين على الفساد، الذي يُعتبر خللاً بنيوياً في السلطنة، كما في باقي دول الخليج. وهنا، المطلوب أن يضرب السلطان بسيفه ضدّ الفساد، الذي رفع المواطنون الصوت عالياً ضدّه، وخاصة ضدّ كبار التجار الذين استفادوا منه خلال الخمسين عاماً الماضية.
وفق حزمة الإجراءات التي أعلنها السلطان، سيجري توفير 32 ألف فرصة عمل خلال العام الحالي، منها 12 ألفاً في القطاع العام الحكومي والعسكري. ومن تلك، ثمّة ألفا فرصة في القطاع الحكومي وفق نظام العقود، فضلاً عن توفير مليون ساعة للعمل الجزئي في المؤسسات الحكومية في مختلف محافظات السلطنة، على أن تقوم وزارة العمل بالإعلان عن الضوابط والآليات التنفيذية. كما ستدعم الحكومة أجور العُمانيين الداخلين حديثاً إلى سوق العمل في القطاع الخاص، بنحو 200 ريال عُماني (ما يعادل 520 دولاراً) لكلّ شخص، ولمدّة ستّة أشهر، وذلك للعاملين في مؤسّسات تأثّرت بسبب «كورونا»، والذين يُقدّر عددهم بـ15 ألف شخص. وسيقدّم «صندوق الأمان الوظيفي» مبلغاً مماثلاً للمواطنين الذين تعرّضوا لإنهاء خدماتهم في أيّ من دول «مجلس التعاون». أمّا بخصوص العمالة الوافدة، فقد اتخذت الحكومة، في نيسان 2020، قراراً بإحلال عمانيين مكان جميع الوافدين في القطاع الحكومي. كما حظرت الدولة على الشركات الخاصة محاولة تخفيف العبء الاقتصادي لأزمة «كورونا» عن طريق تسريح الموظفين العُمانيين. وتفيد بيانات حكومية بتراجع العمالة الوافدة في السلطنة بنسبة 12.6 بالمئة، بين آذار 2020 والشهر نفسه من العام الحالي، لكنّ التراجع جاء نتيجة أزمة «كورونا»، أكثر منه نتيجة تغيير في السياسة الاقتصادية.
الإصلاح الاقتصادي في السلطنة يحتاج أيضاً إلى تفعيل المؤسسات الدستورية. فـ»مجلس عُمان» المؤلّف من مجلس الشورى ومجلس الدولة، غاب كلياً عن التأزّم الذي شهدته قضية الباحثين عن عمل. ويتحمّل مجلس الشورى، خاصة، مسؤولية أكبر باعتباره منتخَباً من المواطنين ويُفترض أن يمثّلهم. ويتعيّن تصحيح أداء المجلس بالتركيز على هذه القضية بشكل أكبر من خلال مراقبة تطبيق الحكومة للوعود التي قطعتها، والمشاركة في ورشة اقتصادية تعيد وضع السلطنة على المسار الصحيح.
في خطاب ألقاه العام الماضي، اعتبر السلطان هيثم أن «الشباب هم ثروة الأمم وموردها الذي لا ينضب، وسواعدها التي تبني، وهم حاضر الأمة ومستقبلها».
وها هم الشباب الذين يمثّلون الشريحة الكُبرى من مواطني السلطنة، قد أدلوا بدلوهم. والاستجابة الأولية للسلطات أوحت بجدّية كبيرة في التصدّي للمشكلات التي يعانون منها، لكنّ العبرة تبقى في التنفيذ، وهو الأصعب.
الأخبار
إضافة تعليق جديد