عن الواقع «المقهور» في سوريا
ليس الشريط المُصوّر الذي يُظهر طفلاً فلسطينياً يُذبح على أيدي ثوّار «معتدلين» في ريف حلب قبل يومين جديداً على المشهد السوري. في الأصل، لا يمكن لعاقل أن يتصوّر حرباً بهذا القدر من إزهاق الأرواح على مدى خمس سنوات وأكثر، من دون أن يفيض فيها التوحش عن الضوابط كافة، المعمول بها في حالة السلم.
ثم إن البيان الصادر عن حركة «نور الدين الزنكي» بدوره لا يستدعي الاستغراب، لانتظامه في السياق التبريري الذي اعتدناه لأعمال القتل والقتال. لا يقلل ذلك طبعاً من «سورياليته». فالحركة التي فصلها الغرب الرسمي والإعلام الطاغي تماماً عن سائر المتطرفين، برغم قتال عناصرها كتفاً إلى كتف مع مسلحي فرع «القاعدة» في بلاد الشام، لم توفّر في بيانها بلاغة في الشرح إلا وحطّت من قدرها. فهي استنكرت «ما تناولته وسائط التواصل الاجتماعي» من دون إشارة مباشرة إلى الفعل المذكور، وأعلنت «تشكيلها لجنة قضائية للوقوف على حقيقة الأمر»، قبل أن «تحمّل المجتمع الدولي المسؤولية الكاملة.. عن الحالة النفسية للمحاصرين»، ومنهم عناصرها الظاهرون في الشريط المصوّر.
هكذا، اختُزل الأمر بعوارض أزمة نفسية جعلت الذين احتزوا رأس الولد الفلسطيني يُقدمون على فعلتهم، في لحظة هذيان ربما. علماً أن الهذيان الأكبر هو ذاك الذي ميّز متابعة اختزلت الحدث السوري بثنائية تقوم على «مقاتلين من أجل الحرية» في مقابل «أنصار نظام فاشيين»، وأهملت صورة مركّبة تحوي في عدادها «منتفضين ضد الاستبداد» على جانب، في مقابل مقاتلين «من أجل الدولة» أو «من أجل البقاء» فحسب على الجانب الآخر، وفاشيين راغبين بفرض منطق الغلبة هنا وهناك، في لوحة الموزاييك السوري المتداعي.
والاختزال، برغم تراجع سوقه جراء انفلات الأمور من عقالها وصولاً إلى دول الجوار وأوروبا، ما زال قائماً ولو بخجل، تغذيه سردية «ثورية» وأخرى «إنسانوية». حتى أن أحد الأكاديميين اليساريين المتحمسين لـ «الثورة» المسلّحة كتب على صفحته الخاصة على «فيسبوك» قبل أيام، مشبّهاً المقاتلين المحاصرين في حلب بثوار باريس الذين قال عنهم ماركس في العام 1971 إنهم «يصعدون لاقتحام السماء». لا أدري إن كان أي من «ثوار» الشريط المصوّر ينوي اقتحام السماء أو، أقله، أي نوع من الاقتحام كان ينويه.
لا حكم على النوايا هنا، بل تقييم لطبيعة السردية المسوّقة، التي تنهل بدورها من خطاب «إنسانوي» فتَكَ، حرفياً، باحتمالات التغيير لغضه الطرف عن الوقائع، وتسليمه بدلاً من ذلك بما يشتهيه من رومانسيات وردية مصاحبة للفعل الثوري كما يظهر على الورق.. أو الشاشات.
لم يكن الانسياق خلف «الواقع الفائق» (hyperreality)، بتعبير فيلسوف الإعلام الفرنسي جان بودريا لدى وصفه دور الإعلام الحديث في خلق وقائع موازية، مجرداً في الحالة السورية عن جرعات دورية من توظيف «حقوق الإنسان» لأغراض دعائية، حيث الخطاب الحقوقي يصبح «صُنعة» غايتها خدمة الغرض السياسي بشكل أداتي.
ربيع بركات
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد