علاء الأسواني: دفاعا عن «قطعة الحلوى»
عزيزي القارئ،
لو أن لديك ابنة في سن الزواج وتقدم لهــا عــريس ممــتاز: ثري ومتعلم وأمامه مستقبل باهر، بالاضافة الى حسن أخلاقه وتدينه، لا يعيبه سوى أنه سبق له الزواج وطلق زوجته الأولى بدون أن ينجب منها.. هل تقبل هذا الشاب زوجا لابنتك؟ في أغلب الأحــوال سوف تسأل عن أسباب طلاقه حتى تتأكد من أنه ليس السبب في فــشل زواجه الأول، وبعد ذلك ستقبله زوجا لابنتك وتقول: «لقد تورط الشاب في زيجة فاشلة وهذا قد يحدث لأي إنسان ولا يعيبه أبدا».. ماذا لو حدث العكس؟ لو جاء ابنك الشاب الذي لم يســبق لــه الزواج وقال لك انه يحب سيدة مطلقة ثم راح يثني على شخصيتها وأخلاقها؟ في الغالب سترفض الفكرة تماما وقد يستبد بك الغضب وتصيح في وجه ابنك:
ـ انت مجنون؟ هل تترك البنات الأبكار جميعا وتتزوج واحدة مطلقة.
هذا التناقض بين التصرفين يعكس للأسف نظرتنا الحقيقية للمرأة، مهما قلنا كلاما جميلا عن حقوق المرأة فإننا في اللحظات الفارقة كثيرا ما نكشف بتصرفاتنا احتقارنا لها. يثور الأب على ابنه لأنه، وهو الشاب الذي لم يتزوج من قبل، يريد أن يتزوج من مطلقة. يتساءل الأب: ما الذي يجبر ابنه على الزواج من امرأة استعملها رجل آخر ولا يأخذ بنتا يكون هو أول من يستعملها؟ كأنك أعطيت لابنك ثمن سيارة جديدة ثم فوجئت به يشتري بالسعر نفسه سيارة مستعملة. لا بد أن تغضب لأنك تحب له أن يستمتع بسيارة جديدة لم يركبها غيره. هذه حقيقة نظرتنا للمرأة مهما ادعينا عكس ذلك. اننا عندما نمدح صلابة أي إنسان أو شجاعته نقول «انه رجل بجد» أو انه «ذكر» وكأن الشجاعة قاصرة على الذكور، وعندما نهدد رجلا نقول له «والله لنخليك تلبس طرحة» وعندما يعذب رجال الشرطة معتقلا يمعنون في إذلاله بأن ينادوه باسم امرأة. وكأن الذكورة دليل الشرف والشجاعة، والأنوثة رمز الذل والخنوع. هذه الأفكار المتخلفة تخلص منها العالم كله فلم تعد الذكورة امتيازا ولم تعد الأنوثة نقيصة. الشعوب المتقدمة تعتبر المرأة إنسانا، حدث أنه أنثى، كما أن الرجل، إنسان حدث أنه ذكر. لقد تولت النساء رئاسة الدولة أكثر من ثلاثين مرة في بلدان العالم المختلفة، وكثيرا ما تفوقت البلاد التي تحكمها النساء على بلاد يحكمها رجال. لعلنا نذكر ذلك اللقاء الذي جمع بين المستشارة الألمانية ميركل والرئيس المعزول مرسي. كم بدت ميركل يومئذ قوية ومتألقة بجوار مرسي الضعيف المتخبط. في العام 1982 نشبت حرب فوكلاند فأنزلت بريطانيا بقيادة امرأة (مارغريت تاتشر) هزيمة منكرة بالأرجنتين التي كان يحكمها آنذاك مجموعة من الجنرالات لا يشك أحد في قوة فحولتهم.. الواقع أننا في مصر نتأرجح دائما بين نظرتين للمرأة. نظرة تقدمية تعتبر المرأة إنسانا كامل الأهلية، لها قدرات مماثلة للرجل بل وقد تتفوق عليه. والنظرة الأخرى رجعية تختصر المرأة في كونها أنثى، لا أكثر ولا أقل، وظائفها الأساسية أنها مصدر للغواية وآلة بشرية لإنجاب الأطفال وشغالة بيت تغسل وتطبخ وتمسح الأرض وكل ما عدا ذلك أقل أهمية. هاتان النظرتان للمرأة تتصارعان في بلادنا منذ عقود. في نهاية القرن التاسع عشر ظهر في مصر مفكر عظيم هو الإمام محمد عبده (1849ـ 1905) فقدم للمصريين قراءة منفتحة عصرية للإسلام، خلّصت العقل المصري من الخزعبلات، وأنصفت المرأة واعتبرتها إنسانا كاملا، ومن ثم تحول الدين الى حافز على النهضة فانطلق المجتمع وتقدمت مصر في المجالات كلها، وبالرغم من الاحتلال البريطاني تحررت المرأة المصرية من كل ما يقيد إنسانيتها، وكانت أول امرأة عربية تتعلم وتعمل وتقود السيارة ثم الطائرة وتدخل الجامعة ثم البرلمان ثم الحكومة. وفي عصر عبد الناصر ظلت المرأة تتقدم حتى جاءت السبعينيات وارتفع سعر النفط في الخليج بعد حرب «أكتوبر»، واضطر ملايين المصريين الى الهجرة الى بلاد النفط، وعادوا من هناك بالقراءة الوهابية للإسلام، وهي قراءة رجعية منغلقة مناقضة للقراءة المصرية التي قدمها محمد عبده، وتدفقت ملايين الدولارات على دعاة جدد معظمهم لم يدرسوا علوم الدين دراسة أكاديمية صحيحة، بل تتلمذوا على مشايخ الوهابية وعادوا يرددون أفكارهم الرجعية التي ذاعت بعد ان كان المصريون قد تخلصوا منها منذ قرن كامل. لا أجد هنا مثالا على نظرة الوهابيين للمرأة أفضل من رأي أحد الدعاة الجدد الذي قال في برنامجه التلفزيوني:
ـ «لنفترض أن رجلا اشتاقت نفسه الى أكل الحلوى وأمامه قطعتان، واحدة ملفوفة تماما في السلوفان والأخرى مكشوفة يتراكم عليها الذباب، أيهما يختار؟ قطعا سيفضل الرجل أن يأكل قطعة الحلوى الملفوفة وسيشمئز من الحلوى المكشوفة المغطاة بالذباب. لهذا يفضل الرجل الزواج من المرأة المحجبة لأنها كالحلوى الملفوفة تحتفظ بحلاوتها لزوجها بينما المرأة غير المحجبة، مثل الحلوى المكشوفة، متاحة للجميع ويتراكم عليها الذباب».
بالإضافة الى التحريض على احتقار النساء غير المحجبات (بمن فيهن المسيحيات) فإن كلام هذا الداعية يعكــس نظــرة الوهابيــين للمرأة. المرأة عندهم قطعة حلوى خلقها الله لكي نستمتع بها نحن الرجال وقطعة الحلوى بالطبع لا عقل لها ولا مشاعر ولا إرادة، وبالتالي يجب على الرجل أن يحرس قطعة الحلوى الى يمتلكها حتى لا يأكلها رجل آخر. الرأي السائد بين السلفيين (الوهابيين) يبيح الزواج من المرأة بمجرد بلوغها الحيض حتى لو كانت طفلة في العاشرة. قال أحد مشايخهم:
ـ «من حق الرجل أن ينكح ابنة العاشرة ما دامت تطيق المعاشرة».
وبالطبع لن يــعرف الرجــل اذا كانــت ستطــيق إلا بــعد أن يعــاشرها. في الأسبــوع الماضــي توفــيت طفلة يمنــية في سن الثـامنة بعد ان تزوجت من رجل في الأربعين دخل بها فتمزق رحمها ونــزفت حتى الموت.
تراجعت النظرة التقدمية الإنسانية للمرأة أمام النظرة الوهابية الرجعية حتى جاءت ثورة «يناير» فتغير كل شيء. الثورة ليست مجرد تغيير سياسي بل هي تغير إنساني شامل تنتج منه تغيرات جذرية في كل المجالات. من أهم إنجازات الثورة ان المرأة المصرية قد استعادت دورها في المجتمع بعد عقود من تراجعه أمام الفكر الرجــعي. كل من اشترك في الثورة يعلم أن النــساء شكــلن نحــو نصف الثــوار وكن دائما في الصفوف الأولى، ولولا شجــاعة المرأة المصــرية لما استمرت الثورة يوما واحدا. وقد كان رد فعل السلطة عنيفا ضد المرأة بالذات، والحق ان نظام مبارك والمجــلس العسكــري الســابق ونظــام «الاخــوان»، بالرغم من اختلافهم في أشياء، إلا أنهم يشتركون في نظرتهم الرجعية للمرأة. أثناء التظاهرات تقمع قوات الأمن النساء بشكل مضاعف. ان انتهاك أعراض المتظاهرات وضربهن وسحلهن يكون بمثابة رسالة صريحة ترسلها السلطة لكل امراة في مصر بأن مكانها الطبيعي هو البيت، وانها لو نزلت الى الشارع لتتظاهر، فسيتم انتهاك جسدها أمام الكاميرات حتى تبوء بالعار والفضيحة معا. لم يتوقف نضال المرأة المصرية منذ اندلاع الثورة في «يناير» 2011 وحتى الموجة الثورية الكبرى في «30 يونيو»، ولكن عندما تم تشكيل لجنة الخمسين لتعديل الدستور الطائفي البائس الذي فرضه «الإخوان» على مصر، فوجئنا للأسف بأن عدد النساء في اللجنة قليل جدا لا يوازي نسبتهن في المجتمع ولا يعادل دورهن في الثورة.. أعضاء لجنة الخمسين جميعا شخصيات وطنية وثورية، لكن تقليص عدد العضوات النساء يعني ان من شكل هذه اللجنة يعـتبر كتابة الدســتور مــهمة جادة ودقيقة لا يقدر عليها إلا الرجال. هنا نصطدم من جديد بمنطق قطعة الحلوى. آمل من أعضاء لجنة الخمسين أن يتخذوا كل الإجراءات التي تحقق للمرأة المصرية حقوقها جميعا حتى لو نص الدستور على «كوتا» أو نسبة معينة تخصص فيها مقاعد للمرأة في البرلمان وكل المجالس المنتخبة. هذا التمييز الايجابي للمرأة في رأيي ضروري (مؤقتاً) لأن الثقافة السائدة الآن لا تثق في المرأة، ما سيؤدي الى تهميشها في أي انتخابات مقبلة. ان الدستور الجديد يجب أن يعكس مفاهيم الثورة في ما يخص حقوق المرأة والأقباط والعدالة الاجتماعية ومنع إنشاء الأحزاب على أساس ديني أو مرجعية دينية. الثورة مستمرة حتى تحقق أهدافها جميعا ومن أهمها حق المرأة المصرية في أن تعامل باعتبارها إنسانا كامل الأهلية والحقوق وليس كقطعة حلوى، ملفوفة كانت أو مكشوفة.
علاء الأسواني
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد