عصر النفط يزحف نحو نهايته
أسعار النفط ترتفع لتسجّل أرقاماً قياسيّة تاريخيّة. واهتمام المراقبين يتمحور حول مدى استمرار الذهب الأسود السلعة الأكثر استراتيجيّة في عصرنا، ومدى اتساع هامش المناورة لدى الدول المنتجة له. من المستفيد من ارتفاع الأسعار؟ هل ستبقى الإفادة في المستقبل؟ ماذا عن امبراطوريّات النفط ومستهلكيه الكبار؟ أسئلة برسم عصر ندرة الذهب الأسود
بغضّ النظر عمّا يجري في الأسواق من ارتفاع جنوني في أسعار النفط، يحذّر خبراء الطاقة من أنّ عصر النفط يزحف بسرعة نحو نهايته، وقد لا يدوم سوى عقود قليلة. يقولون هذا رغم أنّ دانيال يرغن، صاحب كتاب «الغنيمة» المرجعي الحائز جائزة «بوليتزر»، توقع في أواسط تسعينيّات القرن الماضي أن يكون القرن الواحد والعشرون، على غرار سابقه، قرن النفط أيضاً.
أمور كثيرة تبدّلت خلال فترة قصيرة، أهمّها تسارع وتيرة النمو الاقتصادي في آسيا، وتضاعف الاستهلاك النفطي بما يهدّد بنضوب الحقول سريعاً. فالعالم أحرق حتى الآن 1.1 تريليون برميل من النفط، ليبلغ معدّل الاستهلاك 85 مليون برميل في اليوم. وتتوقّع وكالة الطاقة الدوليّة أن يرتفع الاستهلاك بوتيرة متسارعة لتبلغ الزيادة في عام 2030 نسبة 60 في المئة عمّا هي عليه الآن. وبهذا المعدّل لن تكفي الاحتياطيّات المكتشفة حتى الآن (1.2 تريليون برميل) الاستهلاك لفترة تزيد على 40 عاماً، إلّا إذا عُثر على اكتشافات جديدة، أو قلّص العالم استهلاكه، وأنتج بدائل حديثة خلال الأعوام والعقود القليلة المقبلة.
ويحذّر الخبراء من أنّ النمو في الاستهلاك الصيني والهندي، والضغط التصاعدي في الأسعار من خلال المشتقّات المالية وعقود الخيار (المتداولة في الأسواق الماليّة)، فضلاً عن ضعف الدولار وتضاؤل الاحتياطيّات، قد تؤدّي إلى نشوء وضع يفجّر الأزمة الاقتصاديّة العالميّة الكبرى المقبلة، أزمة تشبه مرحلة ما قبل الحرب العالميّة الثانية وما صاحبها من كساد شامل.
استهلاك الصين قفز من 1.7 مليون برميل يومياً في عام 1984 إلى 7.5 ملايين برميل حالياً. أمّا الهند فقد ارتفع استهلاكها في الفترة نفسها من 800 ألف برميل إلى 2.6 مليون في اليوم. لكن هذا الاستهلاك معرّض لأن يسجّل قفزات كبيرة مع تحسّن الأوضاع المعيشيّة للسكّان في الدولتين اللتين تضمّان 2.4 مليار نسمة (أكثر من ثلث سكان العالم). في المقابل، يتجاوز استهلاك 300 مليون أميركي 22 مليون برميل يومياً. وهذه الهوّة مرشّحة لأن تضيق بسرعة في السنوات والعقود المقبلة.
الأسعار ترتفع، والأعصاب ترتجف في الأسواق وسط قلق على الإمدادات في ظل أوضاع جيوسياسيّة دوليّة غير مستقرة. ومع ذلك، فإنّ التأزّم في السوق يناسب كثيراً شركات النفط العملاقة. إذ تجاوزت أرباح شركات النفط الخمس الكبرى: «إكسون ـ موبيل» و«شل» و«بريتيش بتروليوم» و«شفرون» و«توتال»، 120 مليار دولار العام الماضي. وكانت حصّة الشركة الأولى، «إكسون ـ موبيل» الأميركيّة، 39.5 ملياراً. لذا تبقى هذه الشركات بفضل عائداتها الضخمة من أعمدة النظام الاقتصادي العالمي الحالي، وتتمتع بموقع فريد مؤثّر لدى صناع السياسة.
حريّة البترودولار
لا عجب في أن يقول رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي السابق، ألان غرينسبان، إنّ الحرب في العراق كانت من أجل السيطرة على مخزون النفط فيها، علماً بأنّ التنقيب عن النفط في العراق لا يزال غير مكتمل، وهناك دراسات تتحدّث عن أنّه قد يتجاوز ما للسعوديّة من احتياطي. وتليه في الأهمية إيران (137 مليار برميل) التي تمثّل ساحة الحرب المقبلة ما لم يكن لديها قدرة ردع فاعلة.
وأهميّة الدول النفطيّة في الشرق الأوسط لا تقتصر على إمداداتها من الطاقة. بل إمداداتها أيضاً من البترودولار للأسواق المالية الغربيّة والشرقيّة. وقد تجلّى هذا الدور عندما هبّت صناديق الاستثمار السياديّة الخليجيّة أخيراً لإنقاذ مصرف «سيتي بنك» الأميركي، مقدّمةً 5 مليارات دولار، في وقت تقلّصت فيه مصادر الإقراض الأخرى إلى الحدّ الأدنى. ولا شك في أنّ إعادة تدوير عائدات «أوبك» التي ستتجاوز 630 مليار دولار هذا العام، ستكون عرضة للتجاذبات السياسية بين الولايات المتحدة وأوروبا. ولا تزال الدول العربيّة تخشى الابتعاد عن العملة الأميركيّة المنخفضة القيمة، كيلا تتحمّل تبعات سياسيّة أو غير سياسيّة.
المخاطر السياسيّة والأمنيّة في الشرق الأوسط كبرت كثيراً، ولا سيّما بعد عام 2001، وكثر الحديث عن ضرورة إيجاد بدائل للطاقة الهيدروكربونيّة. ولا يزال رجال الصناعة يجدون أنّ النفط أرخص تكلفة من جميع مصادر الطاقة البديلة، حتى عند مستوى الأسعار الحاليّة. لذا فإنّ القطب الصناعي الذي سيتمكّن من إدخال اختراعات تقنيّة مميّزة في سوق الطاقة البديلة هو الذي سيتربّع على عرش الريادة الصناعيّة في المرحلة المقبلة، وتكون له حصّة الأسد من هذه السوق الضخمة. وليس بالضرورة أن يكون السبق في هذا المضمار لدول صناعيّة عريقة. فإمارة أبو ظبي مثلاً، تعكف حالياً على إقامة مشروع عملاق لإنتاج طاقة الهيدروجين من الغاز الطبيعي، ورصدت له 15 مليار دولار، وباشرت المرحلة الأولى منه بتكلفة ملياري دولار. بينما تستثمر أوروبا المليارات في الطاقات الأخرى كالرياح والشمس وأمواج البحر والحرارة الباطنية، فضلاً عن الطاقة النووية.
النزاعات الدوليّة
الهند والصين في حاجة ماسّة لتأمين مصادر مستقرة من الطاقة، لذا أبرمت بكين عشرات الصفقات مع إيران والسودان وروسيا وعدد من الدول الأفريقية الغربية منذ عام 2001. وما هذه الصفقات إلّا مرحلة تحضيرية لما يتبعها من خطوات في غير بقعة من العالم، لذا يراقب المخططون الاستراتيجّيون التحرّكات الصينية بحذر وريبة.
والجانب الآخر في الاستراتيجيّة الطاقوية يتمثّل في نمو النزعة الوطنيّة وغلبة شركات النفط السياديّة (الحكومية). ويأتي المثلان الإيراني والفنزويلي في مقدّمة تيّار متنام في هذا الإطار، فللسياسة الاستقلاليّة التي يتّبعها الرئيسان محمود أحمدي نجاد وهوغو تشافيز، بعدٌ نموذجي يمكن نسخه في غير منطقة، كما أن تطوّر الوضع في العراق و«الحرب على الإرهاب» سيتركان أثراً كبيراً على الوجهة النفطية الاستراتيجية. فإذا استقرّت الأمور هناك، يستطيع العراق مضاعفة إنتاجه. أما إذا فشلت الحرب الأميركيّة، وقويت شوكة المجموعات المناوئة للنفوذ الغربي، فإنّ قطاع النفط قد يتعرّض لكثير من الضربات التخريبيّة، ليس في العراق وحده، بل في أكثر من دولة عربيّة وإسلامية. ولا يغيب عن البال هنا أن تنظيم «القاعدة»، عندما فشل في النيل من مجمّع نفطي شرق السعودية في أيار عام 2004، أُصيبت أسواق النفط بصدمة أدّت إلى قفزة في الأسعار.
ويمكن ببساطة تصوّر ما قد يحدث في الأسواق لو أن هجوم «القاعدة» نجح. إنّه سؤال يؤرق بال المخططين الاستراتيجيين الذين يفكّرون ويضعون سيناريوهات عديدة لاحتمالات ترتدّ آثارها على وضع الاقتصاد العالمي برمته.
امبراطوريّة الطاقة
إلى جانب الاعتبارات الإنتاجيّة والتقنيّة والوطنيّة و«الإرهابيّة» التي تشغل بال المستهلكين والمنتجين على حدّ سواء، يأتي الدور الصاعد للدبّ الروسي. فروسيا، التي لم تعد لديها أيديولوجية محدّدة تحكمها بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، تحوّلت إلى إمبراطوريّة قيصريّة طاقويّة واقعة بين الشرق والغرب، لديها أكبر حقل للغاز الطبيعي، وطاقة إنتاج ضخمة من النفط، ومخزون مالي يتضاعف مع زيادة سعر الطاقة. ورغم أن مخزونها النفطي محدود نسبياً (80 مليار برميل) ويقع في أماكن صعبة، فإنّها ترسم سياستها على أساس التحكّم بمصادر الطاقة من وسط آسيا، ومساراتها شرقاً وغرباً عبر خطوط الأنابيب. وفي هذا الإطار، تودّ موسكو لو أنّ إيران تنضوي تحت لوائها في الاستراتيجيّة الطاقوية والسياسية، لكن الأخيرة، انطلاقاً من عراقة نزعتها الاستقلاليّة، ومن موقعها الجغرافي الفريد، تفضّل أن تتصرّف انطلاقاً من سيادة دفعت ثمناً باهظاً لتحقيقها، ووضعت نفسها في موقع منافس لروسيا، الأمر الذي قد يفسّر قبول روسيا فرض عقوبات اقتصادية على إيران.
مع ذلك، يزداد تحكّم روسيا بموارد الطاقة الأوروبيّة، ومقعدها محفوظ في جميع المحافل كندّ لا يمكن تجاهله من منابع النفط والغاز في كازاخستان وأوزبكستان إلى مصابّها في الصين وأوروبا. وإذا كانت التحالفات العربيّة ـ الأميركيّة تُضعف مركز «أوبك» في المعادلة النفطيّة، فإن روسيا وإيران وفنزويلا وصناديق التحوّط المالية تعوّض عن ذلك الضعف في الأسواق مباشرة. لكن دور «أوبك» النفطي، وما بات يُحضّر له من «منظّمة أوبك للغاز»، سيشتدّ في العقود المقبلة، وخصوصاً إذا ضعف نفوذ الولايات المتحدة المباشر في الشرق الأوسط. هذا الضعف الذي لا يتوقّف فقط على المقاومة للمشروع الأميركي في المنطقة، بل على ما يجري في أسواق النفط الأميركيّة نفسها. فقيمة الدولار تهوي، وقيمة المواد يجب أن تعبّر عملياً عن ذاك الهبوط. وعندما تقول الأسواق كلمتها، على العالم أن يدفع أثماناً، غالباً ما لا تقتصر على القيمة النقديّة.
يؤمّن الشرق الأوسط حالياً 31.5 في المئة من الإنتاج العالمي للنفط. وبحسب إحصاءات «بريتيش بتروليوم» في العام الماضي، فإنّ المنطقة تحتوي على 61.5 في المئة من الاحتياطي النفطي المكتشف.
وفي حسابات الاقتصاديّين، سيرتفع استهلاك الصين النفطي بنسبة 40 في المئة بعد عقدين، أي عندما تستفحل أزمة الإمدادات بسبب نضوب احتياطيّات الكثير من الدول. وبعضها، مثل حقول بحر الشمال، بدأ في النضوب منذ الآن. وهذا يعني أن الدول صاحبة الاحتياطيّات الأكبر سترتقي في سلّم الأهمية عاماً بعد عام.
وبحسب الشركة نفسها، فإنّ دول «أوبك» تتمتّع بـ76 في المئة من احتياطي النفط العالمي، لكن إنتاجها الحالي يلبي 45 في المئة من الاستهلاك. وعلى رأس دول المنظّمة تأتي السعوديّة التي تضم 264 مليار برميل، قادرة على إنتاج 11 مليون برميل في اليوم حتى ينضب النفط فيها بعد 67 سنة. لكن العراق الذي يضمّ 115 مليار برميل وينتج نحو 2.2 مليون برميل يومياً، قادر على مواصلة الإنتاج لمدة 100 عام. أمّا إيران فبمعدل الإنتاج الحالي الذي يزيد على 4 ملايين برميل، ستحافظ على مقعد في النادي النفطي لمدة 87 سنة بفضل احتياطي يبلغ 137 مليار برميل. والكويت ذات الاحتياطي البالغ 101 مليار برميل ستبقى منتجة لمدة 100 سنة، والإمارات لمدة 90 سنة. وعليه، فإنّ أهميّة دول الشرق الأوسط النفطية ستتعاظم للغاية خلال العقود الثلاثة المقبلة.
لكن، على مستوى السوق، ربّما لم تعد «أوبك» هي من يسيطر على سعر البرميل. بل إنّ السيطرة انتقلت، حسبما أوضحت الشهور الأخيرة، إلى صناديق التحوّط التي تتحرّك في الأسواق بمئات مليارات الدولارات، وتقامر مراهنة على وجهة ما في الأسعار، والرهان الحالي على ارتفاعها، مخترقة مستويات قياسيّة لم يعرف العالم مثيلاً نسبياً لها إلّا بين عامي 1973 و1981، عندها قفزت أسعار النفط بنسبة 1000 في المئة من 4 إلى 40 دولاراً. وإذا كان التاريخ يدلّ على شيء، فإنّه يشير إلى أنّ سعر النفط قد يتجاوز الـ200 دولار بسهولة خلال أشهر أو أعوام.
خبراء النفط يتوقّعون أن تعزّز «أوبك» موقعها عندما تنضب احتياطيّات النرويج (بعد 9 أعوام)، والبرازيل (18 عاماً ونصف عام)، وروسيا (22 عاماً ونصف عام). لكن خلال هذه الفترة، قد تبرز كندا لتصبح منتجاً رئيسياً للنفط بفضل مخزونها الكبير (165 مليار برميل) من النفط المختلط بالرمل، الذي قد يصبح إنتاجه مجدياً مع ارتفاع الأسعار.
نزار عبود
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد