(عربة اسمها الرغبة).. الإنسانية في مركب واحد

03-12-2008

(عربة اسمها الرغبة).. الإنسانية في مركب واحد

لم يستطع الفنان غسان مسعود معاندة شوقه وحنينه لمنزله الأول وعشقه الأول «المسرح» فعاد إليه بعد غياب أربع سنوات حلق خلالها في سماء السينما والتلفزيون، ولكن هذا التحليق لم يغنه عن فضاء المسرح فهو مجاله الأرحب والأوسع والأعمق منذ عام 1985، حيث كانت التجربة الأولى مع المرحوم فواز الساجر وعندما شاهدت مسعود في دار الأوبرا منذ يومين وهو يتحدث عن عمله الجديد «عربة اسمها الرغبة» أحسست أنه كان يتحدث حديث العائد بعد رحلة طويلة، ففرحة الإياب لا تعادلها فرحة. 
 لقد اختار غسان مسعود هذه المسرحية الشهيرة للكاتب الأميركي تينسي وليامز لسببين الأول لكي يثبت أن العرب لا يكرهون إطلاقاً المنجز الحضاري والثقافي والفكري للولايات المتحدة الأميركية وأن كرههم ينصب فقط على البيت الأبيض المسؤول عن كل الكوارث السوداء في العالم، والسبب الثاني أن «مسعود» شعر أنه قادر من خلال هذه المسرحية على إيصال رسائله للمتلقي المتعطش للمسرح في سورية، فشخصيات «عربة اسمها الرغبة» التي كتبها وليامز 1947 تتقاطع إلى حد بعيد مع شخصيات المجتمعات العربية في بدايات القرن الجديد فأعاد مسعود تفصيل شخصيات وليامز لتكون قادرة على حمل رؤى ورسائل ظلت تدور في مخيلته زمناً، فإذا كان وليامز قد كتب مسرحيته معبراً من خلالها عن خيبة أمله بالمجتمع الأميركي في تلك الفترة فإن خيبة أمل غسان مسعود بالمجتمعات العربية تبدو واضحة وجلية في النص الذي تابعناه على مسرح دار الأوبرا.
تبدأ المسرحية مع وصول «بلانش» إلى بيت أختها أتسيلا وصهرها «ستانلي» وقد خسرت بيت العائلة وجاءت إلى منزل أختها باحثة عن أمان واستقرار ولكن سرعان ما تدخل في تناحر مع ستانلي السكير والمقامر والهمجي الذي لم يقتنع بما قالته بلانش عن الأسباب التي قادتها إلى هذه الحال المزرية فيبدأ بالبحث عن ماضيها، وفي هذه الأثناء تعجب بلانش بـ«ميتش» أحد أصدقاء صهرها وتأمل أن يكون سنداً لها فتبدأ بالبوح له عما مرّ عليها من مآس بدءاً من انتحار زوجها الذي اكتشفت أنه مثلي الجنس وقد حاولت بلانش أن تخفي عن «ميتش» أسوأ ما في ماضيها على أمل أن يتقدم للزواج منها فيخلصها من العيش في بيت أختها ولكن ستانلي الذي اكتشف أن بلانش ذات سمعة سيئة وأنها مدانة بتهم الفحش والإدمان فيخبر ميتش بذلك فيموت حلم بلانش بالخلاص لتولد في داخلها الرغبة في الخروج من هذا العالم الذي يخلو من المشاعر النبيلة وخاصة بعد أن يقوم ستانلي مع غياب أختها «ستيلا» التي كانت على وشك الولادة في المستشفى يقوم باغتصاب بلانش بطريقة تجعلها تكره كل شيء يحيط بها.
وإذا كان تينسي وليامز قد اختار مشفى الأمراض العقلية لشخصية فإن غسان مسعود وجد أن الموت هو الخلاص الذي تبحث عنه بلانش دافعة بذلك ثمن ماض لا ذنب لها فيه فقد كانت ضحية مجتمع ذكوري وثقافة لا ترى إلا بعين واحدة فماضي المرأة يظل يلاحقها كالشبح حتى يقضي عليها.
«عربة اسمها الرغبة» اعتبرت انعطافة حقيقية في المسرح الأميركي وقد حاول غسان مسعود من خلالها تشريح أزمة الطبقة الوسطى في المجتمع العربي والتي لم تستطع حتى الآن تجاوز أزماتها التي تتجلى في ازدواجية التفكير والتصرف، فشخصية «ستانلي» ما زالت موجودة وبقوة في هذا المجتمع، وبلانش المرأة التي تحاول التخلص من ماض قادها إليه المجتمع الذكوري الذي لا يرحم ما زالت تتحرك في المجتمع العربي رغم مظاهر التحرر الكاذب التي طفت على السطح في العقود الأخيرة، وكأني بالفنان غسان مسعود أراد من خلال هذا العرض إدانة مرحلة بأكملها.
وقد كان للفنانين الذين جسدوا شخصيات المسرحية حضور قوي على خشبة المسرح وخاصة الفنانة سلافة معمار التي استطاعت تأدية شخصية «بلانش» بشكل غاصت فيه بكل انفعالات وتجليات المرأة المهزومة التي تبحث عن يد تنتشلها من وحل الماضي ولا تسألها لماذا وقعت فيه ورغم أن نبرة أداء الفنان باسل خياط كانت مرتفعة بعض الشيء إلا أنه وفق في إبراز صورة الرجل الضحل والتواضع في الأخلاق كما كان لافتاً أداء الفنانة الشابة رنا شميس.
وقد تجلى حضور الفنان غسان مسعود أيضاً في سينواغرافيا العرض التي خدمت جوهر المسرحية ورؤيتها.
«عربة اسمها الرغبة» أراد مسعود أن تكون رسالة واضحة بأن العرب منفتحون على الآخر وخاصة إذا كان الآخر أميركياً وأن ما قدمه المبدعون في الولايات المتحدة من معارف وفنون وعلوم هو ملك للإنسانية جمعاء.
وأراد مسعود أن يؤكد أن همّ المبدع واحد سواء كان أميركياً أم سورياً ولكن تتعدد الرؤى والتجليات، وأن الإنسانية في مركب واحد.

محمد أمين

المصدر: الوطن السورية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...