طرابلس: الجيش اللبناني يتصدى لـ«الفلتان المنظم»
تحوّلت طرابلس من صندوق بريد للرسائل السياسية المتفجرة، الى صندوق لتسديد فواتير الأزمة السورية على دفعات، وكل دفعة بعنوان، من مجازر حمص، الى اقتحام بابا عمرو، الى معركة دمشق، وصولا الى معارك القصير، وطرابلس تدفع الثمن، واحدا تلو الآخر، من أمنها وسلامة أبنائها واقتصادها وتجارتها وسمعتها وهيبة الدولة فيها.
ويستمر السؤال عن الجهة المستفيدة من استنساخ المعارك السورية في شوارع مدينة طرابلس وأحيائها؟ وعن الثمن الكبير الذي يُدفع؟
وإذا كانت جولة العنف السادسة عشرة بين التبانة والقبة وجبل محسن، لم ترتق الى سابقاتها من العنف على صعيد اشتعال المحاور وتبادل القصف الصاروخي بين المتقاتلين، إلا أنها حققت مبتغاها في شل حركة طرابلس وتعطيل مؤسساتها ومدارسها، وفي رفع منسوب الأضرار البشرية والمادية والاقتصادية.
لكن التطور البارز والخطير في الجولة 16 هو ما شهدته التبانة مساء أمس من مواجهات ضارية حصلت بين عدد من المسلحين في التبانة والجيش اللبناني خلال تنفيذه خطة للانتشار حيث تعرض لوابل من إطلاق الرصاص ولرمي قنبلة يدوية أسفرت عن استشهاد عسكريين هما علي شحادة وعمر الحاج عمر، وجرح 6 عسكريين بينهم من هو في حالة الخطر، فضلا عن احتراق ملالة وإصابة آلية عسكرية إصابة مباشرة.
كما أقدم بعض المسلحين على عرقلة تقدم الجيش باتجاه المناطق الساخنة بإشعال الإطارات، لا سيما مقابل بعل الدراويش، وذلك في ظل حملة استهداف غير مسبوقة للجيش اللبناني قادها مجهولون عبر مواقع التواصل الاجتماعي والرسائل الخلوية القصيرة.
وترك هذا التطور الميداني سلسلة علامات استفهام حول الجدوى من قيام المسلحين باستهداف الجيش اللبناني والتعامل معه بهذا العنف؟ وعن الجهة المحرضة على ذلك؟
وعن بوصلة معركة هؤلاء، وعما إذا كانت مع «الحزب العربي الديموقراطي» في جبل محسن، أو مع الجيش اللبناني، أو مع أبناء طرابلس، أو مع كل من يقف بوجههم ويحد من طموحاتهم في بسط نفوذهم على أوسع مساحة ممكنة؟ ثم من هي الجهة التي تسعى لنقل مشهد مواجهات المدن السورية الى طرابلس؟ ومن يحاول زج الجيش في معركة مع أهله؟ ومن يسعى الى إحداث مخيم نهر بارد ثان في بعض مناطق طرابلس؟
واللافت للانتباه، أن «الفلتان المنظم» كان يجري في غياب أكثرية قادة المناطق الساخنة، فمنهم من غادر الى رحلة استجمام في تركيا، ومنهم غادر الى سوريا مؤخرا، ومنهم من نأى بنفسه عن هذه المواجهات، والدليل على ذلك هدوء بعض أبرز خطوط التماس على مدار اليومين الماضيين، وهذا يطرح سؤال الامرة اليوم لمن في تلك المناطق؟ ولماذا تم استهداف الجيش اللبناني بالنيران في هذا التوقيت بالذات؟
واللافت للنظر أيضا لا بل المستغرب أمس، هو القرار الصادر عن وزارة الدفاع بوقف العمل برخص حمل السلاح في طرابلس، وذلك تنفيذاً لمقررات الاجتماع الوزاري ـ النيابي الذي عقد في دارة الرئيس نجيب ميقاتي في الميناء يوم السبت الفائت، خصوصاً أن تردد أصداء إطلاق الرصاص والقذائف الصاروخية والانتشار المسلح الكثيف قد غطى على مفاعيل هذا القرار الذي بقي ممنوعاً من الصرف.
لكن برغم ذلك، ترى أوساط طرابلسية أن هذا القرار قد وضع الجميع من قيادات سياسية وأمنية أمام مسؤولياتهم، حيث بات على القوى العسكرية والأمنية أن تتصدى لكل حامل سلاح تنفيذاً لهذا القرار، مشددة على ضرورة أن يشمل كل مناطق طرابلس لا أن يترجم في أمكنة دون أخرى، وفي الوقت نفسه، بات على السياسيين تغطية الجيش بلا تردد كما كان يحصل في مرات سابقة.
مع ساعات الصباح الأولى من يوم أمس، تراجعت حدة الاشتباكات التي كانت عنفت ليل أمس الأول، وتم فتح الطريق الدولية التي سلكتها السيارات بحذر شديد، نتيجة عدم توقف أعمال القنص التي ترافقت مع بعض المناوشات على المحاور ورمي القنابل اليدوية من حين لآخر.
وظهراً شيع أبناء التبانة عبد القادر الاحمد الذي سقط خلال المواجهات ليل أمس الأول، وذلك وسط حالة من الغضب والظهور المسلح وإطلاق النار بغزارة.
وبعد الدفن تحركت بعض المحاور، لا سيما في الحارة البرانية وطلعة العمري وستاركو، والأميركان والبقار، فشهدت اشتباكات عنيفة استخدمت فيها الأسلحة الرشاشة الخفيفة والمتوسطة والقنابل اليدوية والقذائف الصاروخية، في وقت كثف فيه الجيش من وجوده وسيّر دوريات عند المحاور الساخنة ورد بغزارة على مصادر النيران.
ومع استمرار الاشتباكات، وجد الجيش اللبناني نفسه مضطراً للتدخل بحزم أكبر تحسباً من توسع رقعتها، فبدأت وحداته بتنفيذ بعض الاقتحامات لفرض وقف إطلاق النار بالقوة، لكن المعركة سرعان ما تحوّلت من المحاور بين التبانة وجبل محسن، الى مواجهة بين المسلحين والجيش الذي تعرّض لإطلاق نار كثيف، ورمي قنبلة يدوية أسفرت عن استشهاد مجند وإصابة 6 عسكريين بعض حالاتهم حرجة.
لكن وحدات الجيش استمرت في القيام بواجباتها وفي ملاحقة المسلحين بين الحارة البرانية وطلعة العمري وستاركو وبعل الدراويش في شارع سوريا، في وقت انهالت فيه الاتصالات السياسية على أبناء المناطق الساخنة وشددت على سحب كل المسلحين من أمام الجيش، لأن أحداً لا يستطيع أن يحتمل مواجهة من هذا النوع مع المؤسسة العسكرية.
وقد أدى ذلك الى تراجع حدة المواجهات، فانسحب المسلحون من بعض الشوارع، وعادت المناوشات الى المحاور مع جبل محسن حيث استمر الجيش في الرد على مصادر النيران، وبقيت الأمور على حالها طيلة ليل أمس حيث كانت تعنف على بعض المحاور وتهدأ على محاور أخرى.
في غضون ذلك، دعا النائب محمد كبارة عدداً من نواب طرابلس الى الاجتماع في منزله للبحث في السبل الكفيلة لمواجهة التطورات الأمنية، فحضر الوزير أحمد كرامي ممثلا الرئيس نجيب ميقاتي، أحمد الصفدي ممثلا الوزير محمد الصفدي، والنائبان سمير الجسر وخالد ضاهر وجرى خلاله البحث في التطورات الأمنية في طرابلس.
وصدر عن الاجتماع بيان أسف فيه النواب لاستشهاد عدد من المدنيين والعسكريين، وأكد المجتمعون أن الجيش يقوم بواجب فرض الأمن بالحزم المطلوب وتحت سقف القانون وبالعدالة المرجوة بوجه كل الأطراف، رافضين رفع أي سلاح في وجه القوى الشرعية، داعين الأهالي الى التعاون الكامل مع الجيش والقوى الأمنية للحفاظ على أمنهم وأمن مدينتهم ودحر المؤامرات التي تحاك ضدها.
من جهته، أجرى الرئيس المكلف تمام سلام اتصالا هاتفيا اليوم برئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أبدى فيه قلقه من الأحداث الأليمة التي تشهدها عاصمة الشمال في طرابلس، واطلع منه على الإجراءات التي تُتخذ للحد من تفاقم التدهور الأمني وكذلك ما يقوم به ميقاتي من مواصلة اللقاءات والمساعي مع القيادات السياسية في المدينة. وتمنى سلام أن يتم التوصل الى ما يطمئن نفوس أبناء طرابلس ويحقق السلم الأهلي فيها.
وتابع ميقاتي الأوضاع في طرابلس مع وزيري الدفاع فايز غصن والداخلية مروان شربل، كما التقى وزير الصحة علي حسن خليل وطلب منه إعطاء التوجيهات بمعالجة جرحى الاشتباكات على نفقة الوزارة.
كذلك اطلع ميقاتي هاتفياً من قائد الجيش العماد جان قهوجي على التدابير والإجراءات الأمنية التي ينفذها الجيش لضبط الوضع وتوقيف المخلين بالأمن.
وأكد ميقاتي خلال الاتصال «دعم الجيش في الإجراءات الآيلة الى وقف النزيف الأمني في طرابلس الذي تدفع ثمنه المدينة من أرواح أبنائها وممتلكاتهم».
وشدد على «ان الجيش اللبناني لديه الدعم الكامل من السلطة السياسية ومجلس الوزراء وقيادات طرابلس وفاعلياتها وأبنائها لاتخاذ ما يراه مناسبا من إجراءات لوقف الإخلال بالأمن».
وكان ميقاتي قد ناشد أبناء طرابلس «عدم الانجرار مجدداً إلى الفتنة التي يسعى البعض إلى نشرها في المدينة»، ورأى أن «قدر طرابلس في كل مرة أن تكون البوابة التي يستغلها البعض لتوجيه الرسائل السياسية والأمنية في أكثر من اتجاه، وقدر أبناء طرابلس الشرفاء أن يكونوا في كل مرة وقوداً لمعارك عبثية تستنزف المدينة بشراً وحجراً واقتصاداً». داعيا «القوى الأمنية إلى التعاطي بكل حزم مع الأحداث الجارية، وتوقيف المتورطين إلى أي جهة انتموا، والرد بحزم على مصادر النيران التي تستهدف المواطنين الآمنين في منازلهم وعلى الطرق».
وجدّد ميقاتي دعوة قيادات المدينة وفاعلياتها الى «التعاون لوضع حد لما يجري، لا سيما على صعيد استحضار الأزمات الخارجية الى المدينة».
غسان ريفي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد