شفرة دافنشي شاغل الرقابات والمتزمتين
نجح رون هوارد مخرج فيلم "شفرة دافنشي" (The Da Vinci Code) بنقل أحداث الرواية بأمانة إلى شاشة السينما رغم تغييرات طفيفة أدخلها على نص الرواية الأصلية للضرورة الدرامية والفنية, ولكي يضع المخرج بصمته الخاصة على الفيلم.
شفرة دافنشي -الفيلم المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الأميركي دان براون- يشكك بالرواية الكاثوليكية الرسمية للمسيحية وتاريخها ويحمل في طيات أحداثه البوليسية تشكيكا بالسلطة الدينية التي منحها زعماء الكاثوليكية لأنفسهم.
تتنقل أحداث الفيلم بين فرنسا وبريطانيا, ويبدأ بمقتل جاك سونيير الباحث في متحف اللوفر بباريس والحارس الأخير لسر الكأس المقدسة (The Holy Grail).
يجد بطل الفيلم روبرت لانغدون (توم هانكس) أستاذ الرموز الدينية في جامعة هارفارد نفسه متورطا ومتهما بقتل سونير، يلتقي صوفي نوفو (أودري توتو) خبيرة فك الشفرة في الشرطة الفرنسية وحفيدة سونير نفسه ويعملان معا على فك رموز تركها سونيير قبل مقتله على لوحات الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي.
يتتبع لانغدون ونوفو الإشارات ويسافران وراء الرموز التي خلفها سونير بحثا عن قاتله فيصطدمان بسلسلة أسرار لا تتوقف تغوص في عمق التاريخ لتروي قصة مغايرة للمسيح وحياته وحقيقة رسالته الدينية وهي قصة تناقض في جوهرها القصة الرسمية للكنيسة والقائمين عليها، كما يروي الفيلم.
في الرواية والفيلم المنبثق عنها الذي حاز النجاح حتى قبل إطلاقه مستندا على نجاح الرواية والضجة التي أثيرت حولها ينسج براون حبكة رواية تقول إن رواية الفاتيكان لقصة المسيح تخالف المنطق وتفتقر للإثبات العلمي.
ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يقول إن الديانة التي يعتنقها الملايين حول العالم ما هي إلا "نسخة محدثة عن الوثنية" أنشأها الإمبراطور قسطنطين الأول وأطلقها في مجمع نيقيا, و"أن المسيحية كدين سماوي حرفت تماما بعد وفاة المسيح, وأن للكنيسة تاريخا مليئا بالخداع والعنف".
هذه الاستنتاجات الصادمة لأتباع المسيحية وكذلك ما جاء في الفصل الـ55 من الرواية الذي نقل بحذافيره في الفيلم حيث يجتمع لانغدون ونوفو والمؤرخ البريطاني سير لي تيبينغ, ليتناقشوا في تاريخ المسيحية بناء على "الأصول الوثنية للمسيحية، ومدى أصالة الإنجيل الذي يقرؤه المسيحيون اليوم، وكيف صيرت المسيحية عيسى عليه السلام إلها".
يبلغ تيبينغ ولانغدون صوفي بمشاهد فلاشباك أتقنها المخرج هوارد, أن المسيحية بشكلها اليوم صنعها الإمبراطور الروماني قسطنطين الذي حكم روما الوثنية من 285 حتى 337 ميلادية، أي بعد رحيل عيسى بنحو 300 عاما. ومن أجل أن يتزعم قسطنطين أكبر بقعة من العالم الذي بدأ يعتنق المسيحية قام بإعادة صياغة رموز الديانة الوثنية لتتلاءم مع المسيحية. وبدقة شديدة يعرض الرجلان الرموز لتأكيد التحريف الذي طرأ على الديانة.
هذا العرض قدمه هوارد بإتقان في المشهد الذي صور في قصر تيبينغ قرب باريس والذي قدم الرجلان فيه للآنسة نوفو تحليلا مفصلا للوحة العشاء الأخير لدافنشي. وعبر ذلك التحليل المنعقد القائم على النقد الفني وعلى قراءة الرموز السرية ودلالاتها يصل الرجلان إلى أن الكأس المقدسة ليست كأسا وإنما أنثى هي مريم المجدلية وأنها زوجة للمسيح ما يثبت إنسانيته وينفي الرواية التي صاغها قسطنطين للترويج لفكرة "تأليه المسيح" الذي كان ينظر إليه قبل عام 325 كنبي من البشر، وشخص عظيم ذي معجزات. فالصورة الوثنية الجديدة للمسيح تجعل منه إلها لا يمكن للبشر أن يفهموه ويصلوا إليه دون وصاية رجال الكنيسة.
وتجسد أحداث الفيلم الصراع بين الفاتيكان وجماعة أوبوس داي (Opus Dei) المتطرفة المنشقة عنها, وتعني في اللاتينية "صنع الله". كما يسلط الضوء على أخوية سيون (Priory of Sion)، وهي جماعة سرية ورثت الكأس المقدسة التي تثبت إنسانية المسيح من فرسان الهيكل، وعملت على حماية السر وصيانته باعتباره آخر السبل الموصلة للمسيحية الحقة.
وينتمي للجماعة فنانون وعلماء بارزون من أمثال دافنشي وإسحق نيوتن.
تقدس هذه الجماعة الأنثى -الجنس الذي اضطهدته الكنيسة وأعدمت الآلاف منه بفرنسا في حملات تعقب الساحرات- وتعتبرها محركا إلهيا للكون. وتزعم أن المسيح تزوج من مريم المجدلية وأنجب منها أبناء يمتد نسلهم إلى عصرنا الحالي في فرنسا. وتعتبر الجماعة مريم المجدلية الكأس المقدس الذي حمل دم المسيح عليه السلام.
ويرينا الفيلم كيف يصل لانغدون إلى قبر المجدلية بعد أن يثبت أن صوفي نوفو هي آخر الأحياء من نسل المجدلية, متتبعا رموزا يهودية شاهدها في دير روزلين ومتحف اللوفر. فما يطلق عليه اليهود نجمة داود ما هو في الحقيقة إلا تزاوجا بين رمزي الذكر (مثلث رأسه للأعلى) والأنثى (مثلث رأسه للأسفل).
والفيلم كما الرواية يحمل في صفحاته الأخيرة لهجة تصالحية مع الكنيسة فيظهر أوبوس داي باعتبارها ضحية خداع، والكنيسة باعتبارها ضرورة لحفظ اليقينيات التاريخية لدى مئات الملايين، وهو ما يفعله لانغدون حين يقبل مع صوفي نوفو أن يحفظا السر في موقعه ليحفظا للمسيحية الرسمية روايتها السائدة والمنغرسة في نفوس أتباعها.
زياد طارق رشيد
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد