شعوذات اليسار الرجعي
ـ 1 ـ بعد أن ظلت صفة مثقف ملازمة «لليساري التقدمي» لأكثر من ربع قرن، إذ كان يجب على غلاة الرجعيين أن يرشوا عقولهم بعطر يساري، قبل أن يقبلوا في «فردوس الثقافة»، حدث، في السنوات الأخيرة، ما يمكن أن يسمى الانقلاب الأسود، إذ أصبح اليساريون التقدميون يهرعون إلى قلاع الرجعية للحصول على براءة ذمة ثقافية.
كان من المألوف أن نرى فيلسوفاً ذائع الصيت مثل جان بول سارتر، أو شاعراً عالمياً مثل اراغون، يوزعان المناشير في الشوارع، ويهتفان ضد الممارسات الإجرامية للجيش الفرنسي في الجزائر، وضد الحرب الأميركية القذرة في فيتنام، ولكن لا يتورع فرسان الرجعية الثقافية الجديدة من تبرير انقلابهم بالحرص على الصراحة والنزاهة، والرغبة العارمة في قول الحقيقة، والعزم على مجابهة كراهية الغرب، وانتشار الإرهاب والعنف.
ـ 2 ـ
هؤلاء المثقفون الرجعيون الجدد متخاصمون، متنابذون، يتعذر «تعليبهم في صندوق» متجانس واحد، ولا تنتظمهم إلاّ فكرة واحدة، ولدت بعد 11 أيلول 2001 وتقوم على ضرورة صياغة «انجيل واحد» جديد لحماية الحضارة الغربية من مخالب بربرية حاقدة، ترفض العلمانية، وتسخر من الديمقراطية، وتتسلح بالإرهاب، وتخوض «صراع الحضارات» كما تنبأ صموئيل هنتنتغتون بأن هناك قواسم مشتركة تجمع بين شتات المثقفين الرجعيين الجدد:
أولاً: الزعم أن الغرب هو في «حالة حرب» وان هذه الحرب بدأت في 11 أيلول 2001، ولا يجوز أن تنتهي إلاّ بالنصر الساحق. لقد انطلقت في هذا التاريخ حركة عدوانية ضد الحضارة الغربية، والقيم المسيحية ـ اليهودية، وليست القاعدة إلا الواجهة المعلنة، في حين تختبئ وراءها قوى متسترة في العراق وأفغانستان وفلسطين وبلاد الشيشان وفي الفضاء الإسلامي الواسع في كل مكان.
ثانيا:ً هناك طابور خامس متحالف مع هذه الحركة العدوانية هو يسار مزيف نجح في اتخاذ قرارات معادية للصهيونية والفاشية في دوربان، كما نجح في تأجيج كراهية سوداء ضد الرئيس بوش الذي يتزعم حماية الحضارة الغربية بكل شجاعة، غير مكترث بالهستيريا التي أججها المتخاذلون ضده في كل مكان، وليس موقف المهادنة الذي نادى به بعض زعماء أميركا اللاتينية وبعض المتخاذلين في أوروبا الغربية إلاّ استسلاماً مرفوضاً، لأنه «استقالة وطنية» وهروب من المقاومة الشريفة، ولا يقتصر الطابور الخامس على هؤلاء المهادنين وإنما هو مجسد، وبشكل فاقع بالجيل الجديد من المهاجرين الأفارقة والعرب الذين يحيطون بالمدن الغربية الكبيرة، وهؤلاء لايخفون عداءهم للغرب والسامية ولا يمكن امتصاص عدوانيتهم بالاندماج أو بمعاملتهم على قدم المساواة مع المواطنين الأصليين.
ـ 3 ـ
ولكن هناك «أغبياء نافعون» في هذه الحرب الكونية يتصنعون العطالة الذهنية والملائكية والإيمان الساذج بالإنسانية المفرطة، وهؤلاء يرفضون أن يعترفوا بوجود هذا الشر البربري ولا يكترثون بخطر الأصولية الشمولية التي تفوق الأصوليات الغابرة تطرفاً ورعباً، وهؤلاء لا يقدرون حق التقدير الدور الطليعي الذي يلعبه بوش، ومن ورائه المحافظون الجدد في الإدارة الأميركية في قيادة الحرب، وقد يرتكب بوش بعض الهفوات ولكنه يظل ملاكماً عنيداً لا تنطلي عليه بهلوانيات المتخاذلين والمنادين بحوار الحضارات، لقد دأب الأغبياء النافعون على نشر «ثقافة الاعتذار» بين جماهير الناس حتى تولد عند الجميع الشعور بالإثم، وكما قال روجيس دوبريه: «حينما تتلامح أمامي الجرائم التي اقترفناها في الجزائر وفيتنام ورواندا والشرق الأوسط، أشعر بالإثم وتستبد بي الرغبة في أن أطالب شعوب هذه البلدان بالصفح والغفران، والسمة الرابعة التي تجمع بين هؤلاء المتنابذين هي قناعتهم أن السياسيين «الأغبياء النافعين» الذين يرفضون المجابهة يصرون على حوار الحضارات، ولكن هؤلاء يتسترون على مصيبة أوسع: إنهم بعملهم الجبان يضعون نهاية للتقدم والازدهار في الغرب، ويفسخون القيم الغربية ـ اليهودية، ويتآمرون على الديمقراطية ويحولونها إلى فراغ لا بد من أن ينتهي بانحطاط الغرب.
ـ 4 ـ
على أن السؤال الكبير الذي يطرحه كل المفكرين: «ما الذي حدث حتى غرق العالم في الانتهاكات المخالفة لكل القيم والمقاييس المعترف بها؟ لقد حدثت عدة تطورات متلاحقة فرضت اصطفافاً جديداً للقوى الفاعلة والهامشية معاً، ولم يعد بالإمكان الابتعاد أو الوقوف على الحياد.
أهم هذه التطورات ظهور الإمبراطورية الأميركية المستفردة، واغتصابها حق التدخل المباشر في شؤون العالم، لقد تعهد الرئيس بوش بعد انتخابه للمرة الأولى بالتخلي عن فرض إرادته على العالم، والتفرغ لبناء الأمة الأميركية، ولكن المحافظين الجدد الذين يحيطون به، أقنعوه بعد 11 أيلول على تغيير موقفه بشكل جذري، وإظهار عضلات بلاده بفظاظة وقسوة، بول كريستول رئيس تحرير «ويكلي استاندرد» هو الذي طرح فكرة امبراطورية الخير، وألح على ضرورة التخلي عن السياسة الخارجية «المتطهرة» التي رسمها الرئيس كارتر، وتصدير ما يسمى «الديمقراطية الأميركية» إلى العالم بالقوة على غرار ما فعلته بريطانيا في عهد جورج الثالث، وألمانيا في عهد بسمارك، ومكافحة «الدول المارقة» بلا هوادة، ومن هذا المنطلق يجب على الولايات المتحدة أن تعمل تحت راية مارس إله الحرب والجبروت، لا تحت راية فينوس آلهة الحب والسلام.
إن المبدأ الذي يفاخر به المحافظون الجدد في إدارة بوش هو «تحقيق المصالحة بين الديمقراطية والعصا الغليظة»، ولهذا يجب أن تتحرر الولايات المتحدة من التزامات النظام العالمي لعام 1945، والمتجسد بالأمم المتحدة وأن تلجأ إلى «الحروب الاستباقية» لحماية هيمنتها المطلقة غير عابئة بالاعتراضات ولا بالانتقادات، إن الحرب على العراق لم تكن تستهدف الإطاحة بالنظام الديكتاتوري وإنما إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
ـ 5 ـ
يحاول جيل من المثقفين «القراصنة» في الغرب أن يسطو على الفضاءات والمنابر وأن يمارس هواية الحفر في التضاريس التاريخية لاستخراج ما يمكن أن نسميه «الأمة الغربية» بحجة أن إنقاذ الإنسانية يتوقف على انتصار الغرب أمام «البربريات الشرقية» التي تزحف من كل مكان حاملة معها الهوس الديني والجنون الاثني والإرهاب الحضاري.
وفي حين يتفسخ «الشرق الغامض» دولاً وأقاليم وكيانات، وتتصاعد في أرجائه الدعوة إلى رفض الآخر بل إلى تصفيته، ومحاصرته في غيتويات اسمنتية مسيجة، تتلامح «الأمة الغربية» بعد صراعات ونزاعات دامية استهلكت شعوبها، وتجتاح الدعوة إلى الوحدة الغربية الدول والأقاليم والكيانات، أليس من المذهل أن يسعى الكل في الغرب إلى التجانس، وتذويب الفوارق، على الرغم من اختلاف اللغات والخصائص التاريخية، في حين يتفانى الكل في الشرق إلى التشظي والانقسام والتفتت، قومياً، وطائفياً وعرقياً، على الرغم من وحدة اللغة والتاريخ والرؤية؟!.
د.غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد