دعه يدوّن دعه يمر
الجمل- د. عمار سليمان علي: إذا كان شعار "دعه يعمل دعه يمر" هو كل ما تبقى من ذكريات الحركات النضالية العمالية العالمية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, فإن شعار العصر الراهن, عصر الانترنت والمعلوماتية والقرية الكونية, يجب أن يكون "دعه يدوّن دعه يمر". ولا يجب أن يقتصر معنى التدوين هنا على معناه المتعارف عليه بإنشاء مدونات شخصية في مواقع متخصصة بالتدوين, بل لا بد أن يتعدى ذلك المفهوم الضيق, إذا جاز التعبير, إلى التدوين بمعناه الواسع والشامل, وبما هو فعل حر ينتج عن الحرية ويؤدي إلى مزيد من الحرية!. ولكن حين تضيق مساحة الحرية ويصغر هامش التعبير لا يجد الناس أمامهم إلا التدوين بالمعنى الضيق المشار إليه أعلاه. من هنا فإن كل ازدياد في أعداد المدونات الشخصية لا يعبر ـ فيما أراه ـ فقط عن صرعة عصرية شبيهة بصرعات الأزياء وتسريحات الشعر, بل هو يعبر بالأساس عن ضيق هامش الحرية واتساع مساحة الممنوع وسطوة القوى القامعة, وهو ما أسميه تجاوزاً "ديكتاتورية الحرية" (ولي عودة إلى هذا المصطلح لاحقاً). إنني لا أتكلم هنا عن الدول العربية ودول العالم الثالث فقط, بل أتكلم بالأساس وبالدرجة الأولى عن الدول المتقدمة التي تفاخر بالديمقراطية والحرية والليبرالية, حيث أنها هي التي تشهد ولادة النسبة العظمى من المدونات الشخصية التي تجاوز عددها على شبكة الانترنت, وفقاً لبعض الإحصائيات, حاجز المائة وعشرين مليون مدونة. والسؤال البسيط الذي يطرح هنا, والذي قد يبدو ساذجاً للبعض, هو: ما الدافع لأبناء تلك الأمم المتقدمة والديمقراطية والحرة للجوء إلى التدوين الشخصي, مادامت وسائل الإعلام هناك بمختلف أشكالها المقروءة والمسموعة والمرئية تدّعي أنها حرة ومنفتحة على الرأي والرأي الآخر؟. بصيغة أخرى: إذا كان بإمكاني ـ كمواطن من تلك الدول ـ التعبير عن رأيي بكل حرية في وسيلة إعلامية جماهيرية ومنتشرة ومعروفة, فما الذي سيدفعني لإنشاء مدونة شخصية وتكبد عناء إخراجها وتنظيمها وتبويبها والإعلان عنها والترويج لها؟! المسألة برأيي دقيقة كحد السيف, وليست بهذه السهولة كما قد يخيل للبعض. ولكن دعونا ننتقل إلى مستوى آخر للموضوع عبر طرح السؤال التالي: أيهما أشد وأقسى على الإنسان: أن يجد نفسه ممنوعاً من التدوين عبر حجب مواقع التدوين والمدونات أو عبر حبس المدونين والتضييق عليهم كما يحدث ويتكرر في بلدان العالم الثالث, ومنها طبعاً بلداننا العربية, والأمثلة أكثر من أن تحصى؟ أو أن يجد نفسه عاجزاً عن إيصال صوته ورأيه وانطباعاته وأفكاره من خلال وسائل إعلام عامة أو خاصة تصدع رأسه صباح مساء بحرية التعبير عن الرأي وإفساح المجال للرأي والرأي الآخر, واعتبار ذلك من المقدسات التي لا يجوز المساس بها, ولو مست هي أو من يستخدمها بمقدسات آخرين, لا سيما إن كانوا مسلمين (الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول في الدانمارك ولا حقاً في كل أوروبا, وفيلم فتنة في هولندا, كأمثلة)؟!. سيقول قائل: أنت تبالغ!. ربما! ولكن أنا لا أستطيع أن أقنع نفسي أن كل أولئك المدونين في تلك الدول المتقدمة يمارسون التدوين كمجرد هواية مسلية, وأنهم قادرون ـ فيما لو أرادوا ـ على أن ينشروا آراءهم وأفكارهم في أية وسيلة إعلامية يختارون!. هنا لا بد من إشارة هامة إلى أن الأمر ـ للأسف ـ لا يتعلق فقط بالمواضيع السياسية والاقتصادية, بل المفجع أنه يتعداها إلى أمور فكرية واجتماعية ودينية وحتى طبية وعلمية. إذ ما الذي يدعو طبيباً أو عالماً أو مهتماً بشؤون العلم إلى إنشاء مدونة يضمنها مقالاته وأبحاثه حول الفرع الذي يتخصص فيه لو كان يمتلك القدرة على نشر موضوعاته ومقالاته في الدوريات والمجلات والمواقع الالكترونية ذات الصلة؟ سيخطر على بال البعض أن ضعف المستوى العلمي هو الذي لا يسمح بنشرها في تلك الدوريات والمجلات والمواقع. ربما ينطبق هذا التعليل على نسبة ضئيلة, ولكن ليس على نسبة كبيرة, لأن من يتابع المدونات العلمية والطبية يجد فيها مقالات وأبحاثاً وموضوعات كثيرة ذات سوية مرتفعة, ولكن عيبها ـ على ما يبدو ـ أنها لا تتماشى في كثير من الأحيان مع السائد, والسائد في هذا المجال هو ما يعجب الرعاة والممولين و"مافيات" العلم والطب والأدوية التي تروج لما يناسب مصالحها و"تقمع أو تمنع أو تضطهد أو تعتم على" كل رأي أو توجه يمكن أن يضر بتلك المصالح أو يزعزعها!. فإذا كان الأمر كذلك مع الأطباء والعلماء والمواضيع العلمية والطبية والدوائية, فكيف به مع الناشطين السياسيين والمحللين والمفكرين الذين قد يزعجون التركيبات السلطوية والزعامات الاقتصادية أو يهددونها بالإشارة إلى أخطائها وخطاياها؟! لا شك أن الأمر أدهى وأمر, ولو مهما قالوا وقالوا عن حرية التعبير وتشدقوا بالرأي والرأي الآخر!. فإذا كان الأمر واضحاً تماماً في بلدان العالم الثالث حيث لا أحد يدّعي أنه ينعم بالحرية, والتدوين من هذه الزاوية ـ حيث يسمح به ولا يكون محجوباً ـ نوع من الالتفاف على النقص في تلك الحرية, فإن الأمور أعقد بكثير في البلاد المتقدمة حيث لا يمكن تبرير الإقبال الكثيف على التدوين بغياب الحرية, لأنها موجودة, ظاهرياً على الأقل. ولكن هل جوهر الحرية موجود؟ هنا السؤال المهم, والذي يقود إلى سؤال أهم وأخطر: ما هو جوهر الحرية؟. قد يقول قائل وعن حق: جوهر الحرية هو المسؤولية. والمسؤولية هنا قد تعني أن تضع لنفسك ضوابط وقواعد تناسب المجتمع الذي تعيش فيه, فلا يمكن للإنسان أن يتفلت من كل القواعد والضوابط بالمطلق, بل إن "التفلت من كل منع وقمع ـ على رأي الأستاذ روجيه عساف ـ لا يعني انتصاراً للحرية أو للديمقراطية". كما نقلت عنه رزان غزاوي في مداخلتها الجميلة "ما البديل من التدوين" المنشورة في موقع منصات, وأضافت مؤكدة: ولا تعني الحرية. وهنا لا بد لي من منفذ للعودة إلى المصطلح الذي استخدمته في بداية مقالتي وهو "ديكتاتورية الحرية" الذي يعني لي أن تكون الحرية موجودة ظاهرياً ومكفولة بالنصوص والقوانين والدساتير لجميع أفراد المجتمع, ولكنها في نفس الوقت تخضع لسيطرة مافيا "ديكتاتورية", مؤلفة من سياسيين وأمنيين ورجال أعمال وشركات ومنظمات سرية وما إلى ذلك, تتحكم بكل مفاصل القرار ووسائل الإعلام, وتقطّر حرية التعبير بالقطارة المدروسة التي تعجب الطبيب ولا تؤذي المريض, ولكنها في نفس الوقت... لا تؤدي إلى شفائه!. تماماً كما أن نضالات الحركات العمالية العالمية المدموغة بشعار "دعه يعمل دعه يمر" أدت إلى تحقيق العديد من المكاسب والامتيازات وتحصيل الكثير من الحقوق للطبقات العاملة, وفي نفس الوقت لم تكن قادرة على منع تمدد دائرة الاستغلال والاضطهاد وتوسعها إلى مستويات قياسية وغير معهودة, وإن تلبست لبوساً جديداً. وأرى أن النتيجة نفسها تنطبق على التدوين وشعار "دعه يدوّن دعه يمرّ" الذي أدى وسيؤدي إلى توسع كبير في هوامش الحرية والتعبير, ولكنه سيجد ـ حتماً وفي وقت ليس ببعيد ـ من يلتف عليه بألف طريقة وطريقة, ويحكم على عنقه قبضته المباشرة أو غير المباشرة, ويحوله لخدمة مصالحه المادية والمعنوية, كلياً أو جزئياً. وفي ذلك الوقت لن يبقى من التدوين إلا كما بقي من نضالات العمال, أي الشعار: "دعه يدوّن دعه يمرّ"!.
إضافة تعليق جديد