خليل أحمد خليل.. تقرير العقل عن اللاعقل
في كتابه «العقل في الإسلام: بحث فلسفي في جذور الشراكة بين العقل العلمي والعقل الديني» (دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية، 2010) عمل خليل أحمد خليل على إحياء السؤال حول مسألة العقل في الإسلام، وعلى تبيان أسباب تنوّع العقول التي ولدت مع الإسلام وتواصلت فيه أو ضده حتى أيامنا الحاضرة. وقد اعتمد طريقة علمية، لا تتبنّى أي كتابات تقديسية في الموروث والحاضر، وتنأى عن كل اهتياج اعتقادي وكل تورخة ماورائية، ميتاتاريخية.
يستكمل في «عقل العلم وعقل الوهم: الفلسفة العقلية في أوج الصراع بين العولمة العلميِّة والعولمة الوهميِّة (دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2015) مسارات الصراع بين «العقلانية» و «الجهلانية» في نص إبداعي نقدي. ينقسم البحث إلى كتابين: وضع الأول: فلسفة الكون في اللاكون: أو حكمة العقل والإسلام» ما بين عامي 2010 ـ 2011، وجاء الثاني: «عقل العلم وعقل الوهم: معالم الصراع بين العولمة الــعلميّة والعولمة الوهميّة» ما بين عامي 2013 ـ 2014.
يستند صاحب «جدلية القرآن» إلى منهج فلسفي جدالي وتطوّري، يهـــدف إلى تفكيك بنية «اللاعقل» في عالم المسلمين الحائرين، كاشفاً عن البنى الاجتماعية والدينية والسياسية التي آلت إلى طرد العقل السليم من الإسلام بتدبير سياسي غايته طرد الحرية الفطرية لصالح الفقاهة. وفي ضـــوء الثنائية «البقائية» و «التطورية» يواجه إشكاليات التـــفاوت العالمي بين الثقافات العاقلة والعالِمة بعلم، والثـــقافات الإيهامية المتلازمة مـــع «وهم المجهـــول» (السر الأخفى).
يعالج خليل في بحثه سياقات تحليلية نقدية متعددة الاتجاهات: دينية وسياسية واجتماعية وثقافية، متخذاً من «الفلسفة» بوصفها «عقلاً كونياً» بلا وسيط خارجي، فوقاني (إلهي) أو تحتاني (رسولي)، طريقاً أصيلاً غايته التصدي لإيديولوجيا التوهيم الديني والسياسي. ويدرس فلسفياً عوامل الإكراه الديني والاعتقادي والسياسي في عالمين متعارضين؛ فيرى أن «دول العقل الفلسفي، العلمي، والتقني تمكّنت من تعزيز هيمنتها بالاكتشافات، ومن استحواذها الفعلي على ولاية كونية أو رقابة علمية للعالم، ما انفكت دول العقل النبوي، الشعري أو السحري بامتياز، تواصل ادعاءها لنفسها، وعزوَ العزَّة إلى آخر أكبر، مكتفية بثقافة إيهامية قوامُها تتريث العادات وتحويلها إلى عبادات».
يقارن الكاتب بين التيولوجيا (أو إيديولوجيا الله) والعقل العلمي في سياق: «اللامتناهيان الفيزيائيان» مقابل «اللامتناهيان التيولوجيان» (الله والشيطان)، من دون رفع مقولات التوافق بين العلم والدين. ويخلص بعد رصده لإيديولوجيات القمع الفكري في المجتمعات الدينية أو النبوية إلى إسقاط فرضية الصراع بين العلوم والأديان، نظراً لانقطاع الصلة في حقولهما، ولاختلاف أدواتهما وتباين غاياتهما (العلم يخدم الإنسان، بينا الدين يستخدمه، يستعبده باسم معبود أعلى). إلى ذلك يقايس بين «الإنسان الكوانتي» و «الإنسان الديني»، على أساس التضاد بين الفيزياء الكوانتية الحديثة والتيولوجيا الدينية، فيتناول الإنجازات التي وضعها فيزيائيو الكوانيتة وبائعو الأوهام الدينية.
إن مطلب الأنسنة الناهض على «العقلنة» و «العلمنة» يشكل مسلكاً لتقارب البشر، في حين أن الأديان ومذاهبها تفرّقهم، وتدفعهم إلى حروب في سبيل الله على حساب سبيل الإنسان، وهذا ما ينطبق ـ كما يرى الكاتب ـ على العالم العربي الذي اكتفى بـ «فلسفة السماء» ما آل إلى توطيد فلسفة «السيد والعبد» بدلاً من تكوين فلســـفة إنسانية جامعة قوامـــها التــاقف العالمي والتقدم بالجماعات في مسارية الفكر العلمي.
يحيلنا خليل على ما يُسمّيه «ثقافة الخفاء» قاصداً بذلك «زخارف الوحي الغيبي»، حيث تقوم على خمسة زخارف: زُخرف الرحمان والشيطان، زُخرف أنكر ونكير، زُخرف النعيم والجحيم، زُخرف الوجود والقيامة، وزُخرف الجاهل والمجهول. ومقابل «ثقافة الخفاء» تقوم «ثقافة الظهور» الساعية بعقل العلم إلى دراسة الكون والإنسان استناداً إلى الوعي التجريبي المقاوم للوهم الغيبي، وهي بدورها تندرج في خمسة زخارف: زُخرف الذات والموضوع، زُخرف الوعي واللاوعي، زُخرف النبي والعقل، زُخرف الله والعلم، وزخرف التوهيم والتعليم.
يقارن صاحب «لماذا يخاف العرب الحداثة؟ بحث في البدوقراطية» بين العقلانيات واللاّعقلانيات بناءً على فلسفة التطور التي تتمظهر عنده في تجليات عدة، من ضمنها الفلسفة السياسية التي يوظفها في فهم الفشل المتمادي للدولة في العالم العربي الذي أسقط تدبيره العقلي ضمن مسارين تدميريين: الأول: اغراق الفكر الفلسفي العربي في نقد الأسطورة والفقه، على حساب النظر في تحولاته وإشكالات اتحاده؛ والثاني، فشل فكر الدولة الحديثة مقابل إرهابات جماعات اللادولة الساعية إلى إحلال ثقافة «أقتل» مكان ثقافة «إقرأ» القرآنية، ثقافة «أكتب» أي فكر وعبِّر بحرية. وإذ يشدّد الكاتب على أن الفكر التدميري الظلامي (الأصولي، السلفي، الإرهابي) آخذٌ في تذرير الإسلام، يراهن ـ في المقابل ـ على النهوض الفلسفي العربي، الذي سينصبّ بعد إنجاز ثورات عربية أعمق وأنضج، على مطلب الاتحاد العربي بإزاء الاتحاد الأوروبي وكندا وروسيا... إلخ. لكنْ، بعدما تستأنفُ مصر دورها المركزي الذي أُقيلت منه أو استقالت، منذ سبعينيات القرن المنصرم. هذا النهوض العربي المرتجى لا يمكن تحقيقه إلاّ بعد تفكك فقه التحجر لمصلحة تيارات التطور العلمي والعلماني الناهض بالدول والجماعات والثقافات على قاعدة الوصل ـ لا الفصل ـ بين العقل والدولة. ومع اشتداد فورة الأصوليات، عربياً، مقابل ثورة الاتصالات والعلوم، غربياً، يموضع الكاتب انشطار الكون البشري بين جهازين: الجهاز الديني العالمي والجهاز العلمي الآخذ في التعولم، فتنشطر المعرفة العلمية المعاصرة بين معرفة علمية صارمة وبين معرفة عبادية تفضي غالباً إلى عبودية الجماهير الخائفة.
يلاحظ الكاتب في دراسته استمرار التضاد بين العلم والدين، ويضعنا أمام نماذج عدة كمثل مقارنته بين الإمام الخميني وسيغموند فرويد، محللاً مفاصل الولاية التكوينية الخمينية مقابل الرقابة الكونية العلمية الفرويدية. وعليه يذهب إلى أن «إله العلماء» و «إله الأنبياء» يتغالبان في حلبات الصــراع كافة، متوقعاً أن تطول هذه الحــال ما طال تطــــور الكون في اللاّكون، وما دام العلم لم يبتــكر مفــــاعلاً سوسيولوجياً لتحطيم الأوهام الاجتماعية، معادلاً لتحطيم الذرات المادية.
يقارب خليل نظريات عالم الرياضيات وفلسفة العلوم، البريطاني، روجيه بنروز لنظريات إسحق نيوتن وألبرت آينشتاين، شارحاً أهم الأفكار التي تضمّنها كتابه: (Les Deux Infinis et L’Esprit Humaine). كما أنه يـــناقش عالم البيولوجيا التطورية ريتشارد داوكنز في مولَّفيه: «وهـــم الإله» و «الجينة الأنانية» ضمن فصــــلين الأول: «الله في علم الإنسان ووهمه»؛ والثاني «المورِّثات النَّاسخات والمُـــحاكاة (الجينات والميمـــات). وفي نهاية تحليله الترابطي لخــــلاصات داوكنز يتساءل: هل أفــــضى مــــبدأ تعدّد الآلهــــة ثم حصرها بواحدٍ أحد إلى مثل هذا الإلحاد؟ وبكـــلام مــــعاكس: ألا يُعد التــــأحّد الديني انقضاضاً على التـــعدّد الإنساني؟».
يختتم الكتاب تحت عنوان إشكالي: «نهاية العزو إلى غائب؟». ويخرج بنتائج مهمة ومتقاطعة في تحليل التصادم المحموم بين اللاعقل والعقل في عالم المسلمين فيقول: «ما حدث ويحدث من جرائم تكفيرية في العالم المسلم يطول البشرية كافة، إذْ يجري قتلُ العقل بوهم الوهم. لا تكفير في القرآن، فهذا كتاب علم أو عقل، وليست التكفيرية في الإسلام بشيء، فهي ليست ديناً بقدر ما هي إلحاد جديد، وعندنا، لا مكافحة جدية للإرهاب التكفيري بغير تحصين عقول البشر علمياً، تحصينها من الإيهام الإعلامي/ السياسي/ الإيديولوجي (الديني واللاديني) وحمايتها من القتل والتغوّل».
يقارع الكتاب اللاعقلانيات الدينية، ورهاننا أنه لن يتقبله كثيرون، خصوصاً حين يدرس ـ بعين النقد ـ معامل الترابط بين الدين والوهم. هذا السفر آتٍ من «فلسفة المستقبل»، وهو يضع في أولوياته معادلة صعبة: «لا آخر مع العقل». لقد قدم للقارئ نتائج صادمة ما يجعل الكتابة عنه محفوفة بالإرباك، فالأفكار العظيمة من الصعوبة إيفاؤها حقها.
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد