جون آردن: حاجة الشعب البائس تصنع الابطال
«اذا كنتم جاهلين من أنا... عليكم ان تشعروا بالعار. ألا ليلعن الله أعينكم... هل انتم، كما أظن، من الانكليز؟ هل ثمة جدوى من إخباركم عن المآثر العظيمة التي قمت بها من أجلكم؟ ماذا عن انتصاراتي، انها في سان فنسانت في النيل في كوبنهاغن، في ترافلغار. ماذا عن الطرق التي توسلتها لتحقيق كل هذه الانتصارات؟ انه تاريخ صار، من دون أدنى ريب، معروفاً بما فيه الكفاية. فانا كنتُ أول قائد بحري فهم وطبق نظرية التدمير الكلي لاسطول العدو... ومهما كلف الامر. لقد كان التدمير الكلي ممكناً لانني تجاهلت في شكل مفرط أوامر كل رؤسائي المباشرين...». على هذا النحو، تبدأ واحدة من اكثر المسرحيات شعبية في تاريخ المسرح البريطاني الحديث. مسرحية «البطل ينهض» لجون آردن الذي يعتبر واحداً من أبرز كتاب مسرح الغضب في بريطانيا، الى جانب جون اوزبورن. ومع هذا فإن معظم النقاد ومؤرخي المسرح الحديث، يصفون «البطل ينهض» بانها أكثر المسرحيات بريختية في بريطانيا، حتى وان كان كثر من مؤلفي النصف الثاني من القرن العشرين في بريطانيا ينتمون الى مسرح بريخت في شكل او في آخر. ذلك ان هذا العمل – التاريخي شكلاً، والمصمم في جوهره، مضموناً - يتبع بدقة قواعد المسرح الملحمي. بل منذ لحظاته الاولى، حيث نجد أنفسنا امام لعبة التغريب، منذ يطل بطل المسرحية نلسون من وراء الستارة في شكل مباغت، وعلى عينيه عصابة سوداء، وقد خيط احد كمي قميصه ليخفي ذراعه المقطوعة. وهو اذ يطل على هذا النحو يشرع فوراً في مخاطبة المتفرجين معرفاً عن نفسه، ساخراً منهم ومن رؤسائه ومن التاريخ. ومع هذا نحن نعرف منذ البداية ان نلسون هذا هو احد كبار صانعي التاريخ الانكليزي على الاقل – والأوروبي اذا ما شئنا توسيع الحدود الجغرافية – لأنه ليس شخصاً آخر سوى الاميرال نيلسون قاهر الاسطول الفرنسي، وبطل الامة الانكليزية جمعاء. انه هنا، على الخشبة امام الستارة منذ البداية ليعرفنا بنفسه، وليوحي الينا بأن الحكاية التي نشاهد ليست هي التاريخ، بل التاريخ كما يرويه صاحبه، ونحن علينا ان نصدق او لا نصدق، فذلك هو شأننا. المهم بالنسبة اليه ان يروي. وما يرويه انما هو حكايته، الشخصية والعامة، وكيف ترابط لديه هذان البعدان. بل، خصوصاً كيف صنعه هذان البعدان. او بالاحرى كيف صنعه المستشارون وصنعته الاسطورة وصنعته رغبات الشعب الطيب الذي، من المؤسف انه لفرط احساسه بالنقص، يشعر دائماً بأنه في حاجة الى بطل. ومن هنا، فإن ما يقدمه لنا جون آردن، في هذا العمل المسرحي، انما هو صورة للكيفية - المبكية المضحكة اذا شئتم - التي يصنع بها الابطال. وفي مفتتح هذا كله، التأكيد الحاسم والجازم –طريقة جورج برنارد شو هذه المرة – بأن الابطال يصنعون لا يوجدون، وان صناعة الابطال فن تتقنه اللجان الاستشارية والاعلام المخادع للناس، ولكن خصوصاً رغبات هؤلاء الناس انفسهم.
> والحقيقة ان جون آردن وحتى من قبل بدء مشاهد المسرحية ينبهنا في مقدمة – يحدث احياناً ان يروي بعض اجزائها قبل تقديم العرض – الى ان ما لدينا هنا انما هو بحث في مفهوم البطولة، اكثر منه عمل تاريخي للترفيه او حتى للتعليم. وهكذا يقول آردن مقدماً: «ان معرفة من يصنع البطل هي، ربما، معرفة الوسيلة التي يتسنى لنا بها، في مجتمعنا، ان نصنع بطلاً لأنفسنا، او ربما نكونه نحن انفسنا من يدري؟ لنتأمل هنا شخصيته بطل لا جدال حوله في تاريخنا: الاميرال اللورد نلسون. انه رجل محبوب ناجح، يفرط في تمجيده علية القوم من الحكام، كما تمجده العامة». فماذا عنه؟ هل هو بطل حقيقي، ام انه بطل مُصَنَّع؟ ومن أي نوع من الاساطير صنعت بطولته: من اساطير انتصاراته العسكرية؟ من حكايات تتعلق بكراهية شعبه لشعب آخر؟ من افراطه في علاقته مع عشيقته التي كان يمكن ان تثور فضيحة حقيقية من خلال علاقته بها؟ انها اسئلة لا يجيب عنها جون آردن في تلك المقدمة، لكنه – في المقابل – كتب المسرحية كلها بحثاً عن جواب. فما هي هذه المسرحية، بعد كل شيء؟
انها ببساطة، من الناحية الحديثة والسردية، ما كان يجب ان تكون عليه: وصف لبعض مراحل حياة اللورد نيلسون، أمير البحار، الذي يعتبره الانكليز اكبر قائد عسكري في تاريخهم. ولكن ماذا يحدث امامنا هنا؟ ببساطة ايضاً يضطر الاميرال البطل الى ان يعرف بنفسه امام جمهور بات يجهله لكثرة ما سمع عنه، ولكثرة ما شاهد تمثاله واستخدم اسمه لتعيين اماكن جغرافية في لندن وغيرها. ان «البطل» يطل هنا ليس من خلف الستارة فقط، بل من خلف التاريخ، ليذكِّر بحقيقته. ومن خلال هذا يطل الكاتب المعاصر، ليذكِّر وتحديداً من خلال ذلك التاريخ، بحقيقة اخرى من الواضح ان آردن لا يحاول من خلالها قول شيء آخر غير ما كان يمكن لنيلسون نفسه ان يقوله عن حقيقته. التفاصيل نفسها، الحكاية نفسها والتاريخ هو نفسه. فلا مماراة في حقيقة ما حدث هنا. المشكلة، اذاً، في مكان آخر: في النظرة، في هوية من ينظر الى التاريخ، وفي أسلوب من يروي ذلك التاريخ. وهكذا، بقلم آردن، وكذلك بقلم المسرحية وغريتا دارسي التي شاركت آردن في كتابة هذا العمل، وكما يقول لنا تقديم لـ «البطل ينهض»: ان لدينا هنا نيلسون الذي كرمته امته. نيلسون وقد استحضرت روحه فوق الخشبة كما استحضرت روح عشيقته الليدي ايما هاملتون. ومن خلال ذلك الاستحضار، سنرى حقاً ان امة الانكليز قد كرمت بطلها لأنه يستحق ذلك التكريم هو الذي كان عبقرياً في تحطيم اساطيل العدو. لكننا سنرى ايضاً كيف ان تلك الامة نفسها غضت الطرف عن امور اخرى، منها حياة نيلسون الشخصية وعلاقته الفاسقة بعشيقته. لماذا؟ لأن نيلسون كان الاختراع الذي تبرره الحاجة. كان مواطنوه في ذلك الحين، وربما بعده ايضاً، في حاجة الى بطل كي ينتشلهم مما كانوا فيه... من محنهم وهبوطهم التاريخي. «كنا في حاجة اليه» تصرخ الامة على لسان ابنائها. فصنع البطل، ليتمكن من «انجاز ما طلبناه منه». اعداء امة الانكليز، لا سيما الإيرلنديون لم يستسيغوا ذلك ولم يعترفوا ابداً ببطولة ذلك «الاعور الفاسق» – كما كانوا يسمونه، لكن امته الانكليزية عرفت، بلؤم، كيف تستغله في قتل الناس أحسن استغلال. وحين لعب دوره جعلوا له بعد مقتله نصباً كبيراً وتمثالاً مجيداً يعلو ميدان ترافلغار، شاهداً على البطولة... ولكن ايضاً شاهداً على بؤس شعب يحتاج الى ابطال. وهذا الجانب الاخير هو لب المهزلة، ليس كما يصورها لنا التاريخ، بل كما تصورها لنا المسرحية. وهنا، في هذا السياق بالذات تجدنا في لب اللعبة البريختية ولا سيما منها الجانب الذي يحاول ازالة القناع عن التاريخ، ليس من خارج ذلك التاريخ، بل ؟ داخله – كما فعل بريخت مثلاً في «قديسة السائح جان»، ولكن في عصرنة لحكاية جان دارك ذات دلالة.
> ولد الكاتب المسرحي الانكليزي جون آردن العام 1930 في مقاطعة يوركشر، وهو عمد منذ بداية تعاطيه مع الكتابة المسرحية في خمسينات القرن العشرين، الى جعل اعماله – اضافة الى لغتها المسرحية العنيفة التي تعتبر في شكل ما تطويراً للبريختية في اتجاه يدنو من بعض النزاعات البيرانديللية (نسبة الى بيرانديللو) - الى جعلها وعاء تصب فيه افكار اجتماعية وسياسية، تتلاقى مع افكار مدرسة مسرح الغضب. ومن اشهر اعمال جون آردن، التي كانت تقدم فور انتهائه من كتابتها، «رقصة العريف ماسغريف» و «حين لا يكون الباب باباً»، و «الحرية ذات اليد اليسرى» و «السماء السعيدة» و «ورشة الحمار». واضافة الى غضبه الدائم على التاريخ الانكليزي، عرف جون آردن بنزعته السلمية ومعاركه ضد النزعة السلطوية الانكليزية.
ابراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد