جورج البهجوري في صالة أتاسي
حل رسام الكاريكاتير والفنان التشكيلي المصري المعروف (جورج البهجوري) ولأول مرة، ضيفاً على دمشق.
حيث شهدت صالة (أتاسي) للفنون التشكيلية ما بين 13 و 30 تشرين الثاني 2007 معرضاً فردياً له ضم ستاً وعشرين لوحة من الحجوم المختلفة، بينها ثلاث جداريات منفذة بالنسيج، وما تبقى منفذة بتقانات لونية مختلفة، تناول فيها موضوعه الأثير (الوجه) الذي يعتبره بصمة كبيرة تعلو الجسد، إضافة الى الخيول، والديك،وعازفي الموسيقا من الرجال والنساء، لاسيما جوقة عبد الكريم الريس في أصيلة بالمغرب، التي خصّها بلوحة هامة حاشدة بالرموز والوجوه والخطوط والألوان.
للبهجوري أسلوبه الفني الخاص الذي تتماهى فيه شخصيتة الفنيّة الأولى (رسام الكاريكاتير) بشخصيته الفنية اللاحقة (الرسام والمصوّر والنحات) والمنتمي بقوة، الى الاتجاه التكعيبي، لاسيما اسلوب قطبيه الرئيسيين (براك) و (بيكاسو) وهذا الأخير، تربطه به علاقة خاصة، روحيّة وفنيّة، تتبدى بجلاء ووضوح في تجربة البهجوري الذي يؤكد (وهو القبطي) أن بيكاسو اقتبس من الفن المصري القديم عموماً، ومن الفن القبطي خصوصاً، كما ساهم كثيراً، بتنوير طريقه الى الفن، وحببه بتحديث القديم، والاستفادة من مخزون غني اسمه (التراث الانساني) وفي الوقت نفسه، يقوم البهجوري برسم ما يراه ويعرفه.
يقول البهجوري أنه ولد مرتين: الأولى في قرية (بهجورة) بصعيد مصر عام 1935، والثانية في باريس عام 1970 حيث قرر اتخاذها مستقراً جديداً له، لكن دون أن يقطع علاقته بوطنه. درس الفن في مصر وفرنسا، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون، ويُعتبر من أبناء الجيل الذي شهد وساهم بولادة مجلة (صباح الخير) التي اسستها الصحفية الرائدة (فاطمة اليوسف) عام 1957.
رسم البهجوري الكاريكاتير في (صباح الخير) و (روز اليوسف) وعدة مجلات وصحف مصرية أخرى، كما رسم في عدة صحف مغربية وفرنسية، قبل أن ينتقل الى عالم اللوحة والمنحوتة ورسوم الأطفال ، ويقر بوجود علاقة كبيرة، بين شخصيتة كرسام كاريكاتير وكمصوّر، فالخط الكاريكاتيري في أعماله ليس غريباً على خطه الدرامي العميق التعبير، المختزل الى حد بعيد، فالاختزال كما يقول، كان هاجسه الأساس ومازال. فهو دائم البحث عن إلغاء الزوائد في العمل الفني، كي لايبدو عملاً مترهلاً، وقد استفاد من هذه الخصيصة في أعماله، رسام الكاريكاتير المصري المعروف (صلاح جاهين) حيث أخذ منه أشكاله وتقاناته وتكويناته المختصرة، واكتسب من هذه التأثيرات شهرة كبيرة، بعد أن أضاف اليها اللمسة السياسيّة.
لجورج البهجوري عدة كتب منها (أيقونة فلتس)، (أيقونة باريس)،(بهجر في المهجر) وفي هذا الأخير يقول: (في بعض الأحيان، أشعر كأني أولد من جديد، وغالباً ما أسير وكأني ممثل ناشئ في فيلم سخيف). ويضيف مؤكداً: (شربت باريس فرسمتها كشجرة يابسة على نهر السين، ورقة مورقة، ثم تساقطت جميعها مع الخريف، وذابت رسومي في مياه السين، ولذلك بحثت عن قلم لا يرسم ولكنه يكتب)!!.
غير أن الغربة لم تقتلعه من جذوره، إذ ظلت مصر (كما يقول) هي الأم، الحضن الحنون، الطفولة والأحلام والذكريات. أما باريس فهي الحبيبة، وذلك العشق المتجدد الذي لا ينضب، مهما قست عليه وأتعبته، لأنه هنا يتطور مع مدينة ذات نبض يومي غير عادي، فهو في هذه المدينة، يرى كل ملامح الفن وعراقته وتجدده، لكنه في الوقت نفسه، لا ينسى الموقف العنصري الذي جابهته به باريس، عندما سافر اليها لأول مرة عام 1968، حيث كان هناك معرض لمجموعة من الفنانين، أراد أن يُشارك فيه، فسجل اسمه، لكن قبل افتتاحه، أعربت المشرفة على تنظيمه أن ثمة اعتراضاً على مشاركته في المعرض، كونه مصرياً، وكون عبد الناصر أساء للأجانب و(بهدلهم) كثيراً، وطرد اليهود من مصر، وهذه غلطة كبيرة ارتكبها عبد الناصر (كما يرون) مع ذلك، أبدت المشرفة على المعرض إعجابها بأعماله، وقامت بعرضها، رغم اعتراض الجميع.
هذا الموقف، أشعر البهجوري الناصري بالضيق، لإيمانه أن عبد الناصر حقق نهضة كبيرة في مصر، غير أن هذه الصورة القاتمة لمصر والمصريين في فرنسا، سرعان ما تغيرت بعد العام 1969، وأصبح هناك إقبال على أي شيء فيه روح مصر.
هذه الروح الأصيلة، تتبدى في أكثر من ملمح في أعمال البهجوري المنحازة بقوة الى تجربة بيكاسو القائمة على الاختزال المعبر، والخط القوي، واللون الكامد، والتقطيع المدروس والمتداخل، للمساحات والأشكال والعناصر.
شخصية الرسام حاضرة بقوة، في غالبية أعماله، مع ذلك، هناك أعمال، برز فيها اللون كقيمة أساسية.
هذا التحول من رسم الكاريكاتير الى اللوحة، يراه البهجوري محاولة للارتقاء باسلوبه وبخطوطه فالكاريكاتير ـ كما يراه ـ سلاح، واللوحة موسيقا الفن، وكثيراً ما يترك الانسان سلاحه كي يستمتع بالموسيقا، لكن عندما يحدث حدث مهم، فانه سيمتشق ريشته ـ السلاح ـ ولن يترك الحصان وحيداً!!.
تطل من لوحات البهجوري ثقافة بصرية رفيعة، تمسح تاريخاً عالمياً طويلاً وعميقاً، تبدأ من رموز الفن المصري القديم، وتنتهي بالمدارس الفنية الحديثة وأبرز روادها الذين بهروه بأعمالهم على مدى سنوات طويلة، ومازالت حتى اليوم، يستمتع وينهل من عبقريتهم. يقول: (تابعت هؤلاء الفنانين في كل مكان، وسافرت الى عواصمهم، وزرت مواقع ولادتهم وقراهم وأمكنة إلهامهم، وصعدت طائرة، وتسلقت قطاراً، وتعلقت في باص، وسرت على قدمي، وتسكعت على رصيف عندما فقدت الطريق، وهبطت الى الأنفاق، ودخلت عطفة، وجلست على مقهى، لأنني رأيت عليه لافتة «رودان» ودخلت مراسم هؤلاء الفنانين التي تحوّلت الى متاحف، أدخل قاعة خرج زوارها في لحظة، لأبقى وحدي مع الأعمال المعروضة، فأشعر بأن الفنان رسم هذه الأعمال لي وحدي.
ويضيف الفنان البهجوري قائلاً:(طالت معي سنوات المراهقة الفنية التشكيليّة، وقررت ليلة صحوت فيها مع الفجر (وهي حالة تحدث لي غالباً عندما يأتيني أمر جلل نابع من داخلي) وكان قراري هو التمرد بشكل حاد، بعد أن انقطعت فترة، وتوقفت رحلاتي وزياراتي إلى متاحف هؤلاء الكبار، ونفذت هذا التمرد بالعمل المتواصل في مرسمي بباريس، فخرجت مجموعة من اللوحات التي حاولت فيها الاقتراب من عالم هؤلاء العباقرة الذين أتعبوني وأرهقوني في البحث، وأنا لست مقلداً أو مستنسخاً لأعمالهم، بل هي حالة أشبه بما يسمونه (التناص) في عالم الأدب، أو الشعر، والتي يكتب فيها شاعر ما قصيدته على وزن وقافية شاعر آخر)!!.
د. محمود شاهين
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد