تكريم الرواد أم اغتيالهم
هل تفلت الندوة التي تنظّمها وزارة الثقافة السورية تكريماً للكاتب حنا مينة، من الوجوه المحنّطة، ومن الأبحاث المدرسية المكرّرة؟ متى تخضع تجارب الرواد لقراءة جيل يملك حساسية أخرى، وأدوات سرديّة مختلفة، وتقنيات نقديّة جديدة؟
فوجئ الحضور في الندوة التي أقامتها أخيراً وزارة الثقافة السورية لتكريم الروائي الراحل فارس زرزور (1930 ــ 2003) حين اعترفت الروائية المصرية هالة البدري بأنّها لم تكن قد سمعت باسم هذا الروائي، قبل أن تصلها الدعوة للمشاركة في الندوة. كان لا بدّ من أن تدعى إلى الندوة، كي تبحث عن تجربة هذا الأديب المجهول بالنسبة إليها. تلك الحادثة فتحت الباب على مصراعيه في الوسط الثقافي السوري أمام أسئلة جدية في شأن آلية المشاركة في الندوات الرسمية، وكيفية اختيار الأسماء والشروط الواجب توافرها في المدعوين. إذ تبدو المشاركة في تلك الندوات، نوعاً من «رد الدين» بين المشاركين، أو تدخل في باب العلاقات الشخصية.
لكنّ القائمين على توجيه الدعوات يضعون في اعتبارهم أولاً أسماء الأصدقاء بصرف النظر عن اختصاصاتهم. وهم في الغالب أساتذة جامعيون يحضرون ببحوث مدرسية جافة، تليق بقاعة محاضرات لطلابهم، ولا مكان لها في ندوة يفترض أن تكون سجالية ومبتكرة في أطروحاتها... وخصوصاً أنّ تجربة فارس زرزور، تحديداً تستحق العناية النقدية فعلاً. الروائي الذي اضطر للعمل حارساً ليلياً في شركة بناء، مات مشرّداً وفقيراً ومهملاً، بعدما ترك أعمالاً روائية وقصصية لافتة مثل «حسن جبل» (1969) و»المذنبون» (1974) و»أبانا الذي في الأرض» (1983)، إضافة إلى أعمال وثائقية عن الثورة السورية الكبرى وسدّ الفرات. لكن الحاضرين إلى الندوة لاكتشاف تجربته الغنيّة، سيجدون أنفسهم مضطرّين إلى المسارعة في مغادرة القاعة. ما يدور في مثل هذه الندوات، يدخل في باب إعادة الأفكار ذاتها، من نقاد اعتادوا إلقاء محاضراتهم بأصوات جهورية و«تسميع» الدرس بأقل قدر من الأخطاء البلاغية.
ما بات متعارفاً عليه في كواليس الوسط الثقافي بـ «فضيحة هالة البدري»، يذكّر بما حدث في ندوة سابقة، أقامتها وزارة الثقافة لتكريم الراحل نزار قباني. في تلك الندوة، كانت المجزرة أكثر هولاً ... لقد شهدنا اغتيال صاحب «الرسم بالكلمات»، عندما تبرّع بعض المشاركين باستعادة أفكار واتهامات، كانت مطروحة قبل نصف قرن، وعفا عنها الزمن والذائقة معاً. كأن قطار النقد توقّف من دهر في محطة مهجورة، ولم يعد معنيّاً بفحص جدي لفرادة تجربة هذا الشاعر الاستثنائي، وخصوصيتها في المعجم الشعري العربي المعاصر.
اليوم تستعد وزارة الثقافة لإقامة ندوة تكريمية للروائي حنا مينة. ويُتوقّع أن تعاد الأسطوانة ذاتها، سواء لجهة أسماء المشاركين أم نوعية الأبحاث. سيستعيد المشاركون من أدراجهم بحوثاً ومواضيع إنشاء مستهلكة في مديح تجربة «روائي البحر الأول»، وأهمية روايات «الشراع والعاصفة» و»الياطر» و»الشمس في يوم غائم» في مسار الرواية العربية! وسيطنب بعضهم في تكرار أقوال سمعناها عن تأصيل النص الروائي العربي «بحراً» وربما «براًَ» و»جواً».وسيتبرع بعض المحسنين بترشيح الروائي (83 عاماً) لجائزة نوبل. ثم ينتهي المولد كالعادة بجولة سياحية للمشاركين. السؤال الذي لم يجد آذاناً مصغية من القائمين على هذه الندوات، هو: لماذا لا تُقرأ تجارب الرواد بأصوات جديدة تختلف عنها في أساليب السرد، والنبرة الحكائية، ومفهوم النص، وزاوية النظر؟ الريادة بحدّ ذاتها لم تعد سؤالاً نقدياً مهماً، بعدما أُشبعت حرثاً ودرساً، على مدى عقود. بل بات ضرورياً كما يرى بعضهم، اختبار نصوص هؤلاء الرواد من موقع مضاد. ما يفتح باب السجال واسعاً على قضايا سردية ملحة تواجه الإبداع العربي في مختلف أطيافه، مثلما يضيء هذه التجارب من زوايا مختلفة ومفيدة بالطبع.
ويتساءل بعضهم بمرارة: إلى متى تظل الأجيال اللاحقة في مهب الإقصاء في أسطوانة تكريمية، تكرّس الأسماء نفسها، سنةً تلو أخرى؟ كأنّ الحياة الثقافية السورية، والعربية عموماً، تبدأ من الصفر دائماً، وتفتقر إلى التراكم والتأسيس والتأصيل. فكلما جاءت إدارة ثقافية جديدة، تفرد مقترحاتها في تفعيل العمل الثقافي، بتكرار ما أنجزته الورشة السابقة. هكذا كُرّم محمد الماغوط، وزكريا تامر، وسليمان العيسى، ووليد إخلاصي، وعبد السلام العجيلي، أكثر من مرة. وما إن يستعدّ الجيل اللاحق لاستلام الراية، حتّى يُفاجأ بانتهاء صلاحيات الورشة القديمة، فتتسرّب الفرصة من بين الأصابع.
أعلنت وزارة الثقافة قبل سنتين عن جائزة أدبية للأصوات الجديدة، منها جائزة للشعر باسم محمد الماغوط، وجائزة للرواية باسم حنا مينة. ومنذ أيام، أعلنت الوزارة عن دورة جديدة للمسابقة بأسماء رواد آخرين، مرفقة بشروط جديدة، أبرزها أن «تتناول المخطوطة رؤى المقاومة في سوريا». أثار هذا الأمر استهجاناً لدى بعض المثقفين السوريين، ليس رفضاً لنصّ المقاومة بحدّ ذاته، بل لجهة تأطير جائزة يُفترض أن تكون بوصلة لاكتشاف الأصوات الجديدة في الابداع، بصرف النظر عن موضوعاته. وخصوصاً أنّ إحدى الجوائز هي باسم زكريا تامر، صاحب النص المتمرد على كل الأطر التقليدية، وأخرى باسم أبي خليل القباني الذي أسّس لمشروع مسرحي عربي رائد، غير محكوم بمانشيت محدد!
آخر المبادرات المرتبكة التي اقترحتها وزارة الثقافة، إصدار صحيفة أسبوعية طال انتظارها، بعنوان «شرفات الشام». وعلى رغم أهمية المشروع، كان ضرورياً إنجازه، منذ سنوات طويلة. إلا أن النتائج جاءت مخيبة للآمال. إذ خلا العدد «التجريبي» من أي لمسة صحافية وافتقر إلى المهنية في حدّها الأدنى وحفل بالأخطاء التقنية والتحريرية. الصحيفة التي يرأس تحريرها نجم الدين السمان، اعتمدت في عددها الأول على أسماء لا تتمتع بأي خبرة صحافية. ما انعكس على مقترحات الصحيفة في غياب أسماء مثقفين سوريين مرموقين والاستعاضة عنها بمواد قديمة سبق نشرها بأقلام معروفة مثل محمد عابد الجابري وجمال الغيطاني وهاشم صالح. ولعل أكثر ما أثار الاستغراب في مواد العدد، نشر مقال لوزير الثقافة الدكتور رياض نعسان آغا، «نقلاً عن صحيفة «الاتحاد» الإماراتية». هنا علّق بعضهم: «إذا كان مقال الوزير منقولاً عن صحيفة أخرى، فما بالك ببقية المواد المطبوعة؟».
خليل صويلح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد