باربي ومعذبو الأرض
ـ 1 ـ كانت لدينا في مطلع حياتنا، خريطة تحدد لنا معالم الانتماء الأيديولوجي والسياسي، وترسم لنا، بوضوح وشفافية، تضاريس الانزلاق إلى اليمين المتحجر، أو النضال في خندق اليسار الحداثي، وكنا نسترشد بهذه الخريطة للتمييز بين الوطنية المستنيرة والضلال السياسي، ولكم تطرفنا، بعض الأحيان، وحولنا هذه الخريطة إلى «بوصلة» تحذرنا من «رفاق السوء»، وترصنا في «خندق الصواب».
كانت خريطتنا مزيجاً متلعثماً غير متوازن من مثالية «بيسمارك» القومية الوحدوية، وشعبوية «روبسبير» الفوضوية، وثورية «لينين» المدمرة، وكان لنا رواد من المثقفين النموذجيين المتأثرين بالفكر الراديكالي الفرنسي، كنا نتداول مقالاتهم وكتبهم الموضوعة والمترجمة، من منزل إلى منزل، ونتحاور حول طروحاتهم، في جلسات متنقلة.
وما زلت أذكر الأثر الكبير الذي تركه كتاب «معذبو الأرض» لـ«فرانتس فانون»، المفكر الزنجي من المارتينيك الذي ترجمه إلى العربية الدكتور سامي الدروبي ـ رحمه الله ـ كما أذكر ما قاله لي الصديق عبد البر عيون السود وكان مثالاً نادراً في الاستقامة، فكراً، وخلقاً، وسلوكاً: لم يتألق كاتب في العالم الثالث، كفانون، في تفسير الحداثة في بلدان العالم الثالث، واستجلاء مضامينها... ولم يكن صدقي اسماعيل، راهب الثقافة الرصينة، الذي فقدناه في أوج عطائه، أقل تحمساً لـ«فانون»، إذ كتب في افتتاحيته في مجلة «الموقف الأدبي» التي أصدرناها معاً عن اتحاد الكتاب العرب: لقد نجح هذا الساحر الإفريقي في إقناع مثقفي فرنسا، بقدسية الثورة الجزائرية، وروعة الثورة الفيتنامية، وفي رأس القائمة جان بول سارتر الذي كتب مقدمة كتابه.
ـ 2 ـ
ولكن الخريطة التي صاغتنا، سياسياً وثقافياً قد تمزقت، والبوصلة التي رسمت معالم الطريق قد تحطمت: البسماركية تحولت إلى أسمال طائفية ومذهبية منقوعة بالدم، والروبسبيرية استخدمت لبناء قصور فرساي جديدة، مخصصة لخصيان السلطة، والحريم السياسي، ولم نستبق من اللينينية إلا البوليس السياسي الذي يحاسب الناس على الشهيق والزفير، وحينما داهمنا طغيان العولمة، وتعهر العدالة الاجتماعية، وعودة الامبريالية الحاقدة، وسيادة البطش العسكري، تم استبعاد المثقف ـ القضية، لفتح الطريق أمام المثقف ـ البوق، وانتصرت الغثاثة الإعلامية على الدسم الحضاري، وسقطت قيم الحرية، والمساواة والتضامن والتسامح، لم يحدث هذا في عالمنا المحاصر، المستلب، المستغل فحسب، وإنما على امتداد الكرة الأرضية، ألم يكن روجيه غارودي على حق حينما كتب كتابه الأخير «إرهاب الغرب»، الذي طبع في الجزائر، بعد أن رفضت دور النشر الفرنسية طباعته: لست فخوراً بانتمائي إلى هذا العصر، وكم يخجلني أن يقال عني إنني مثقف يساري فرنسي، يؤسفني أن أغادر هذا العالم، بعد أن بلغت نهاية المرحلة، وأنا متخم بخيبة الأمل...
ـ 3 ـ
سيصاب الذين تعودوا على مناخات «حي المثقفين المتمردين» في باريس، حي السان جرمان دوبري، بخيبة أمل كبيرة، إذ سيكتشفون أن شوارعه لم تعد المرتع المفضل للمتظاهرين من أجل الحرية والعدالة والمساواة، وإنما للاستعراضات المبتذلة، وأن مقاهيه التي كان يتردد عليها كبار مثقفي العالم للقاء القامات الفارعة في الثقافة الفرنسية، قد تحولت إلى أوكار للمتحذلقين ونجوم الإعلام المضاء بالنيون، وأن مكتباته التي كانت منارات توزع شرارات الرفض والغضب والتمرد قد أصبحت اسطبلات للإثارة البوليسية والانحطاط الحضاري، وكما قال دانيال ليندنبرغ في كتابه الصاخب «التهافت على الرجعية الجديدة»، الذي فضح فيه ارتماء المثقفين الجدد على دكاكين الإعلام المرتزق: يتساءل زوار فرنسا عن أسباب انزواء مثقفيها الذين كانوا يملؤون الدنيا ضجيجاً؟ أقول لهم: لقد أصبحوا جثثاً محنطة ومعلبة في توابيت فاخرة اشتراها لهم كبار رجال الأعمال...
ـ 4 ـ
أول ما ينبغي الاعتراف به، ولو على مضض، أن ثنائية اليمين واليسار، التي كانت المحرض لكل المعارك السياسية قد حلت مكانها ثنائيات أخرى، أكثر ارتباطاً بإرهاقات العصر وإشكالاته. إن المرشحين للانتخابات حالياً الذين يقدمهم الإعلام على أنهم مرشحو اليمين المحافظ، أو اليسار الليبرالي، يتعالون على هذه الثنائية، وعوضا عن الدعوة الى رص صفوف جماهيرهم يختلسون قيم اعدائهم التاريخية، ويزعمون انهم اكثر اخلاصاً لها، وأقدر على تنفيذها من دعاتها الأصليين. السؤال المطروح بجدية هو: من هم الليبراليون في مقابل الاشتراكيين؟ من المحافظون في مقابل التقدميين؟ ولكن السؤال الأكثر الحاحاً هو: هل الديمقراطية هي الاستعاضة عن العدد الأكبر من غير الاكفاء بالعدد المحدود من الفاسدين المدللين؟ قال «برناردشو» ذات يوم، في سخرية: « هناك ثلاثة أنواع من الطغاة، الطاغية الذي يرعب الجسد، والطاغية الذي يرعب الروح، والطاغية الذي يرعب الروح والجسد معاً، الأول يسمى الأمير، والثاني يسمى البابا، والثالث يسمى الشعب..».
ـ 5 ـ
لعل أكبر مفارقة يشهدها عصرنا هي بروز ثنائية التمرد والثورة، واصطفاف «معذبي الأرض» وراء المتمردين الغاضبين، وزهدهم بالثوريين الممنهجين، ان المتمرد يقول «لا» ، من سبيرتاكوس الى الاستشهادي الذي يتمنطق بالحزام المعنقد، وسواء حاجر رجال الشرطة أو فجر سيارة مفخخة، او اقتلع شجرة، أو دمر مقهى، فإنه يبصق على عالم الشر باسم الخير والعدالة، انه لايتردد في زرع الفوضى في عالم قائم على الاحصاء، شاهراً « الآن ، والهنا» امام الطغاة الحريصين على النظام والطاعة ، وهو على ثقة انه يغزو المستقبل بالضياء ولكن حين يتحول المتمرد الى ثائر ممنهج يناضل من أجل الوصول الى الحكم، فإنه قد يقبل بتأسيس عبودية جديدة. وكما قال« روجس دوبريه» مرافق غيفارا الأمين: لو أن غيفارا لم يقتل غيلة وغدراً، وتوصل الى قمة الهرم الحاكم، لتحول الى طاغية مثل ستالين، ولما كان معذبو الأرض جعلوا منه «ايقونة»!.
يرفع ايفان ، بطل رواية «الإخوة كرامازوف» لـ ستوفسكي ناظريه الى السماء ويتضرع: «يارب ، لن أغفر لك آلام الأطفال، وسوف يتصاعد غضبي منك، ولو كان ما أفعله خطيئة وتجديفاً!» ماذا يفعل معذبو الأرض امام قيصر العالم الشرير، بوش الذي يمارس القتل والتخريب والانتهاك على امتداد الكرة الأرضية وهو يردد «الله معنا، الله مع الولايات المتحدة».
كان فانون ـ وهو من الاختصاصيين في التحليل النفسي ـ يحذر من الاستغراب القائم على المحاكاة والتقليد الأعمى ، وقد خصص أكثر من فصل في كتابه«معذبو الأرض» ليصف مشاعر المستعمَرين «بفتح الميم» وهم يحلمون بأن يرتدوا ذات الثياب التي يرتديها أسيادهم المستعمِرون «بكسر الميم»، وأن يناموا في ذات الأسرة التي ينامون بها، ومع زوجاتهم ان اقتضى الأمر، وكان يسمي هذه المشاعر المبتذلة «الدونية الحيوانية»، ويبدو أن هذا الاستغراب الدوني يشمل الاحتذاء السياسي أيضاً، وكأن المثقف في العالم الثالث لا يشعر بأهميته الا اذا «استورد الفوران السياسي» من الخارج، أي من الغرب الاستعماري. وقد آن الأوان للتفاخر بالأصالة التاريخية، على الرغم من العولمة التي تنتشر شباكها في كل مكان، ولعل أكبر فاجعة تهدد العالم الثالث هي استيراد «ديمقراطية اليانكي» التي وصفها فيليب دو سان روبير، أحد مثقفي فرنسا النزيهين، بأنها «لعبة باربي بين حشد من لابسات الشادور! ».
د. غسان رفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد