الهدنة السورية تترنّح.. والجيش يسترد القريتين
هجومان متزامنان على ريفَي حلب واللاذقية في الثماني والأربعين ساعة الماضية، كانا أكثر من كافيين لإعلان نهاية الهدنة الهشّة التي تعيش البلاد على وقعها منذ شهر ونيف.
لكن على ما يبدو، فإن المدد الذي يصل إليها عبر الحبل السري للتفاهمات الأميركية ـ الروسية، ما زال قادراً على نفخ الروح في جثتها الهامدة والحيلولة من ثم دون شمولها بمبدأ «إكرام الميت دفنه».
وفي خطوة لا يمكن وصفها بمجرد «الخرق»، لأنها تُفرغ الهدنة من أي مضمون، شنّت مجموعة من الفصائل، من بينها فصائل موافقة على الهدنة ومنخرطة في العملية السياسية، بالاشتراك مع «جبهة النصرة» المستثناة من الهدنة، هجومين قويين على ريف حلب الجنوبي وريف اللاذقية الشمالي، استمرا طوال اليومين الماضيين. وقد امتدت المواجهات في الجبهتين على عشرات الكيلومترات، مستغرقةً أطول فترة اشتباك منذ إعلان الهدنة في 27 شباط الماضي. وقد تمكنت هذه الفصائل من الاستيلاء على بعض النقاط في كلا الجبهتين، من بينها نقاط إستراتيجية، مثل تلة العيس في ريف حلب الجنوبي. وهو ما يعني أن الفصائل خالفت الهدنة في أمرين جوهريين، هما وقف العمليات العدائية، وعدم جواز الاستيلاء على أراض جديدة.
وكأن الفصائل لم تكتف بهذا الخرق، فخرج السعودي عبدالله المحيسني، «قاضي عام جيش الفتح»، مستعيداً نغمة التهديد بما أسماه «غزوة حلب». وشدد على أن «أعداد المسلحين الذين سيتجهون إليها أضعاف الذين اتجهوا إلى إدلب».
ويأتي هذا التهديد الأخطر الذي تتعرض له الهدنة، ليؤكد من جديد، أن «جبهة النصرة» استطاعت مرة أخرى أن تفرض على جميع الفصائل المسلحة منطقها الخاص بوجوب رفض الهدنة والاستمرار بالقتال. وكان زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني قد هدد في وقت سابق بالعمل على «إفشال الهدنة»، واصفاً من يشارك فيها بالخيانة والتخاذل. إلا أن بعض الفصائل انضمت مع ذلك إلى طاولة المحادثات، فيما آثرت فصائل أخرى أن تراقب الوضع عن كثب قبل أن تحسم خيارها.
ومن الواضح بعد تطورات حلب واللاذقية أن المستفيد الوحيد سيكون «جبهة النصرة»، لأنها أثبتت صحة رؤيتها للأمور، وهو ما وافقها عليه، ليس فقط قيادات الفصائل المسلحة، بل حتى رئيس «الهيئة العليا للمفاوضات» رياض حجاب، الذي تحدث بطريقة مماثلة من حيث عدم وجود أي جدوى من المفاوضات السياسية.
وكانت الهدنة منذ انطلاقتها، في 27 شباط الماضي، قد تعرضت لعشرات الخروقات التي عمل مركزان، أحدهما روسي في قاعدة حميميم الجوية بريف اللاذقية، والثاني أميركي في العاصمة الأردنية عمان، على إحصائها وتسجيلها. لكنهما حرصا في كل مرة على وصفها بالصغيرة وغير المؤثرة، وذلك في محاولة منهما لتحصين الهدنة، وضمان استمرارها أطول فترة ممكنة ريثما يتاح لهما ترتيب أوراق العملية السياسية الجاري العمل عليها في جنيف. غير أن الهجومين المتزامنين في حلب واللاذقية كانا مختلفين عما سبقهما، وهو ما دفع وزارة الدفاع الروسية إلى استخدام وصف «الخرق الجسيم» للمرة الأولى منذ بداية الهدنة.
أما عن السبب وراء محاولة إسقاط الهدنة بهذا الشكل، فلم يعد خافياً أنه منذ إعلان وثيقة المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا (المبادئ الـ 12) بعد انتهاء جولة المحادثات الثانية في جنيف، فقد شعرت بعض الفصائل، وعلى رأسها «حركة أحرار الشام» بخيبة الأمل من «المسار التفاوضي»، الأمر الذي دفع كبار قادتها إلى انتقاد الوثيقة رافضين ما جاء فيها، ومطلقين حملة تحت مسمى «لا لأنصاف الحلول». وكان من اللافت أن بعض قادة الجناح السياسي شاركوا في هذه الحملة، بمن فيهم قائد الحركة أبو يحيى المصري.
وكان لكبير المفاوضين في «وفد الرياض» محمد علوش، وهو ممثل «جيش الإسلام» في الوفد، دور بارز في التحريض على إنهاء الهدنة والعمل على إسقاطها. حيث وجّه إلى قائد «أحرار الشام» طلباً واضحاً «بتوحيد الصفوف وإشعال الجبهات» باعتبارها اللغة الوحيدة التي يفهمها «النظام». وربما لم يكن علوش يتوقع أن تشتعل الجبهات بالفعل، لأن إعلام «جيش الإسلام» حرص طوال فترة الاشتباكات في ريف حلب الجنوبي على عدم التركيز على مشاركة فصيله في القتال، إلا ضمن ما أسماه «الرد على هجوم الجيش السوري» في محاولة للإيحاء أنه لم يكن المبادر إلى خرق الهدنة.
هذه الخيبة من مسار «التفاوض»، بالإضافة إلى الإحساس بخطورة استمرار الهدنة، وجدا، على ما يبدو، تفاعلاً من بعض الدول الإقليمية التي لم يرق لها رؤية الجيش السوري وهو يحرر مدينة تدمر، بما لها من ثقل حضاري وتاريخي، من براثن تنظيم «داعش»، وقيامه أمس بتحرير القريتين، لتتلاقى إرادة الطرفين على وجوب توجيه ضربة قاضية إلى الهدنة، للتخلص من التبعات التي فرضتها، وخاصةً لناحية تصاعد الخلافات بين الفصائل بعضها بعضاً بسبب جمود الجبهات مع النظام (نموذجَي إدلب ودرعا)، وكذلك لناحية تمكن الجيش السوري بسبب هدوء جبهات «الهدنة» من حشد قواته على جبهات القتال ضد «داعش»، الأمر الذي أثار الخوف لدى بعض الدول من أن يمنحه ذلك الحق الحصري في وراثة الأراضي الواقعة تحت سيطرة التنظيم، وهو ما تردد صداه حتى في واشنطن التي أعلنت عن تجديد برنامجها لتدريب «المعارضة المسلحة». وما لم تقله واشنطن قاله أحد قياديي «الجيش الحر»، واضعاً الإعلان عن برنامج التدريب الأميركي الجديد في سياق قطع الطريق على الجيش السوري. وقال القيادي في «الجيش الحر» أحمد العاصمي إن الدعم الأميركي جاء لمنع النظام من الاستيلاء على المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش» لأن ذلك سيمنحه مزيداً من القوة لرفض الحل السياسي.
وبالرغم من أن موسكو كانت قد أعلنت، قبل حوالي أسبوعين، عن استعدادها «لاستخدام القوة من جانب واحد ضد جماعات مسلحة تخرق الهدنة في سوريا»، وأن وزارة الدفاع الروسية وصفت الهجومين المتزامنين بالخرق «الجسيم» إلا أنه لم تظهر أي بوادر للقيام برد فعل على ذلك. وقد تكون موسكو بانتظار الجواب الأميركي على هذا الخرق، حيث أبلغت نائب رئيس مركز التنسيق الأميركي في عمان، عن طريق مركزها في حميميم، بكل المعلومات حول الخرق، وذلك قبل أن تتخذ بالتنسيق مع الجيش السوري أي خطوات تصعيدية رداً على ما حدث.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد