المساهمات العربية في الاكتشافات الفضائية
في نصف القرن الماضي، ساهمت أياد عربية في مغامرة وكالة الفضاء والطيران الأميركية لاكتشاف الكون «ناسا». وجاءت تلك الأيادي من بلدان لا تمتلك مؤسسات ولا علوماً ولا برامج تمكّنها من المساهمة في مغامرة العقل الانساني في الفضاء! وربما ليس مدهشاً القول ان البرنامج الفضائي الوحيد في المنطقة تمتلكه اسرائيل، ولا يُعرف الكثير عن تفاصيله سوى أنه يتضمن شقاً عسكرياً يمكّن تلك الدولة من أشياء كثيرة مثل المراقبة المستمرة للدول العربية كافة. والأنكى أن نصف القرن الماضي لم يسجل للعرب سوى الاستمرار في تراجع مساهمتهم في اللحاق بركب التقدم العلمي، فكيف بإغنائه؟ ويصعب ألاّ يحضر التكلّس السياسي - الحضاري للنظام العربي، عند التأمل في مفارقة أن يستطيع الانسان العربي المساهمة في مسار العلم المعاصر، عندما يوضع في سياق سياسي وثقافي وحضاري مناسب، فيما يعاني العالم العربي من شدة التخلف في العلوم والتكنولوجيا. ولربما بدت مؤلمة للبعض مواجهة حقيقة بسيطة مفادها أن أفراداً من العرب تألقوا علمياً في الأزمنة المعاصرة، إنما حققوا انجازاتهم بفضل الغرب وعلومه ومؤسساته ونظامه في السياسة والثقافة والاجتماع والقانون. وتشير انجازات هؤلاء الأفراد أيضاً إلى معلم مهم في الحال الحضارية النابضة للغرب، يتمثّل في القدرة على التفاعل مع عقول تفِد إليه من مشارب متنوّعة؛ لأنه يشكّل قطباً هائلاً لجذب الأدمغة.
واستطراداً، يستغرق كثير من العرب في نقاش مُضن وقليل الجدوى، عن وصف ذهاب العقول اللامعة الى الغرب. ويحتارون في وصفها بين «نزيف العقول» وهجرتها؛ و «كسب الأدمغة» التي تتشرّب من علوم الغرب الذي غدا مركز الحضارة عالمياً منذ قرون. وفي مقابل ذلك الاجترار للأوصاف، يغيب الإقرار بالحقائق البسيطة مثل انعدام قدرة النظام العربي عموماً على التفاعل العميق مع معطيات العالم المعاصر في التطور والحداثة. ويؤول الأمر الى المراوحة عربياً بين موقفين يبدوان متناقضين، لكنها كوجهي العملة نفسها. فيظهر موقف الاندهاش والانبهار، مترافقاً مع أشياء مثل الببغائية في التقليد، والانقياد الى أصناف لا حصر لها من التماهي شكلياً وبتسطح مع المتفوق الغربي والتسليم غير النقدي بـ «المركزية الغربية» ومقولاتها ثقافياً وسياسياً.
وعلى الطرف الآخر من الانسحاق أمام التفوق الغربي، يظهر موقف قوامه ردّ الفعل المتحجر على الاحساس بالدونية، في الغرق بأوهام الذات واجترار الماضي والمبالغة في «المرافضة» السطحية لـ «الغرب» الذي يغدو كتلة غير مفهومة ومُعادية، بحيث يستحيل صوغ علاقة متفاعلة ومتشابكة معه. وبغض النظر عن تلك الأشياء، يبقى أن ثمة أيادي عربية متعلمة ومتواضعة وصبورة ودؤوبة، تعمل في مؤسسات تُنتج للعالم علومه؛ فتعطي الانسان العربي بصيصاً من أمل، مهما كان ضئيلاً؛ مع الكثير من الفرح أيضاً.
> من «مختبر الدفع النفّاث» Jet Propulsion Labratory (اختصاراً «جي بي ال» JPL) في «باسادينا» في «لوس انجيليس» في ولاية كاليفورنيا الأميركية، قاد اللبناني تشارلز العشي انزال الروبوتين «سبيريت» و «أوبورتشونيتي» على سطح المريخ، مطلع عام 2004. وأعطى الروبوتان صوراً رائعة كشفت الكثير من أسرار التركيب الجيولوجي للكوكب الأحمر، وسبقاً جديداً لأميركا في الفضاء، إذ جاء نجاحهما بعد أيام قليلة من فشل «الوكالة الأوروبية للفضاء» في إيصال روبوت مماثل الى سطح المريخ. ونال العشي تكريماً واسعاً، هنأه الرئيس جورج بوش على انجازه.
وحينها، ظهرت أيضاً صور كثيرة للعشي في وسائل الإعلام؛ وبعضها جمعه مع الاميركي- الايراني فرانك النادري، الذي يعمل في طاقم توجيه الروبوت «سبيريت» على المريخ.
وفي محاضرة له في بيروت عام 2006، وصف العشي الدقة المطلوبة في إنزال روبوت على المريخ، بأنها تشبه ضرب كرة «غولف» في بيروت وانزالها في حفرة صغيرة في طرف الساحل الغربي من الولايات المتحدة. وحينها أيضاً، مازَحَ العشي الحضور الشبابي الذي نجح «ديوان أهل القلم» في حشده تكراراً للقاء مع هذا العالِم؛ بالقول انه يبدأ نهاره بقراءة تقارير عن النجوم، وتحديداً عن الكواكب السيّارة في النظام الشمسي؛ بدلاً من قراءة الأبراج في الجرائد مثلاً!
وُلد العشي في لبنان، في 18 نيسان (ابريل) 1947. وتألّق في شهادة البكالوريا الثانية - القسم العلمي حيث حلّ أول على مستوى الجمهورية. وبعدها، سافر الى فرنسا حيث نال بكالوريوس في الفيزياء من جامعة «غرينوبل» ودبلوماً في الهندسة من معهد «البوليتكنيك» (كلاهما في عام 1968).
بعدها سافر إلى الولايات المتحدة حيث حصل على دكتوراه في العلوم الكهربائية من «معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا»، الذي يشتهر باسمه المختصر «كالتك» Caltech عام 1971. واستطراداً، فإن ذلك المعهد خرّج المصري - الأميركي أحمد زويل، الذي نال جائزة نوبل للكيمياء عام 1999.
ثم ما لبث المسار الأكاديمي للعشي أن دخل منعرجاً غير متوقع. وبدا وكأنه يعود الى مقاعد الدراسة الجامعية الأولى، حين انخرط في دراسة جامعية لعلم الجيولوجيا الذي يعنى بدراسة تركيب طبقات الأرض. ونال شهادة الماجستير في ذلك العلم من جامعة «كالتيك» عام 1983. والحال أن الجيولوجيا تعتبر من العلوم التي تهتم بها «ناسا» لأسباب متنوعة، منها أن ذلك العلم يساهم في تقدّم معرفة علم الفضاء بتركيب الأجرام السماوية من كواكب سيّارة ونيازك وشُهُب وغيرها. ويمكن اعتبار «الناسا» من الحاضنات التي ولد فيها علم «جيولوجيا الفضاء». وبفضل جمعه بين الجيولوجيا والفيزياء، تدرّج العشي في عدد من المناصب العلمية في وكالة «ناسا»، فتولى مسؤولية الكثير من رحلات المكوك الفضائي، كما عمل معاوناً لمدير برنامج المركبة «ماجلان»؛ وكذلك الأمر بالنسبة الى مشروع «روزيتا» الفضائي. وأنجز قرابة 230 دراسة تتعلق باستكشاف الأرض ومراقبتها من الفضاء الخارجي، وتطبيق طرق الاستكشاف الجيولوجي باستخدام الرادار الفضائي على الأجرام السماوية. ثم أصبح مديراً لـ «مختبر الدفع النفّاث»، حيث قاد عملية هبوط الروبوتات على المريخ. ويتقاطع شغفه بجيولوجيا الفضاء مع الاهتمام الأكاديمي لنظيره المصري البروفسور فاروق الباز.
وفي عام 2004، فتح الهبوط الروبوتي على المريخ الباب مُجدداً للحديث عن مجموعة من العرب، وخصوصاً اللبنانيين، العاملين في وكالة «ناسا». فمثلاً، ارتفع صوت البروفسور اللبناني - الاميركي في جامعة «برنستون» إدغار شويري (من مواليد طرابلس)، ليتحدث عن مفارقة أن تهتم بلاده بالمغنين أضعاف عنايتها بالمبدعين علمياً. وحينها، ذكّر كلام شويري بحادثة لا تخلو من طرافة وألم. ففي عام 1999، زار البروفسور سمير زكي، وهو اميركي من اصل مصري ولبناني مختلط، بلده لبنان. وتصادفت زيارته مع جولة للعارضة الشهيرة كلوديا شيفر. وانشغل الرسميون اللبنانيون بالعارضة الشقراء، التي أُهديت خزانة خشبية تاريخية كبيرة، انشغلت وسائل الاعلام في الحديث عن صعوبة شحنها بالطائرة. وفي المقابل، جاء زكي الذي تُغيّر أفكاره العلمية عن عمل الدماغ البشري، نظرة البشرية الى عقلها، فجاء الى بيروت ورحل، ولم يعلم بالأمر الا نفر من الاصدقاء. وكفى الله المؤمنين شر القتال!
- ثمة مصادفة مماثلة في الحدث المريخي. فقد تصادف انجاز اللبنانيين وغيرهم ممن شاركوا في انجاز تتباهى به البشرية بعد أيام من لقاء شبكة «سي ان ان» مع أحدى فاتنات الفيديو كليب. انبرت الاقلام للحديث عن ذلك اللقاء، وعما خرج من فم الفاتنة من كلام، وما لم يفعل. ثار جدل عن موقع صوتها في «تاريخ» الغناء العربي! ويصعب القول أن تلك الثلة العلمية تنال من اهتمام الاعلام العربي ولو كسراً بالمليون من الاهتمام بفاتنات الفيديو كليب. وغني عن القول ان العشي نال تكريماً من الدولة اللبنانية، ومُنح وساماً مُشرّفاً، بعد أن ضجّت وسائل الاعلام اللبنانية والعربية بالغبن الظاهر في أن يُكرّم من رئيس بلد المهجر والقوة العظمى عالمياً، في مقابل إهماله في وطنه!
وفي سياق الحدث المريخي عينه، مُنِح البروفسور إدغار شويري من «مختبر الدفع بالبلازما» التابع لوكالة «ناسا»، وسام الارز الوطني من رتبة فارس. وهو يعمل استاذاً في جامعة «برنستون». وتعوّل «ناسا» على «مختبر الدفع بالبلازما»، في انتاج وقود يعتمد على الطاقة المختزنة في الذرات المشحونة كهربائياً (تُسمى «أيون»)، بحيث يستطيع أن يُمدّ مركبات الفضاء بالطاقة لسنوات طوال، من دون أن يكون له حجم كبير ولا وزن ثقيل. وعلمياً، يُطلق على ذلك النوع من الوقود اسم «بلازما». تلقى شويري علومه الاولى في مسقط رأسه طرابلس، في شمال لبنان وانتقل الى الولايات المتحدة عام 1979، في عزّ الحروب اللبنانية الأخيرة، بعد انهائه المرحلة الثانوية. وفي المغترب، اتجه الى دراسة هندسة الفضاء، الذي نال الكثير من شغفه كطفل، في جامعة «سيراكروز» في هندسة الفضاء. وحاز شهادتي الماجستير والدكتوراه في ذلك التخصّص من جامعة «برنستون»، التي تعتبر من المراكز الأكاديمية الوطيدة الصلة بوكالة «الناسا» وأعمالها. وفي تلك الجامعة، عمل شويري في مختبر متخصص بالابحاث عن قوة الدفع للصواريخ الفضائية، وخصوصاً وقود البلازما. وما لبث أن اصبح رئيساً لذلك المختبر.
ومن الأسماء اللبنانية التي تعمل في «ناسا» راهناً، يظهر اسم مصطفى شاهين (مواليد بيروت 1935)، الذي يشرف على برنامج يتخصّص بابتكار مركبات فضائية تختلف عما تستعمله وكالة «ناسا» راهناً. ويظهر أيضاً اسم جورج حلو، وهو من كبار المشرفين على عمل تلسكوب الفضاء «سبيتزر» الذي يخدم برامج في فيزياء الفضاء وهندسته.
- اتّجه العالم المصري المعروف فاروق الباز (مواليد «السنبلاوين» في محافظة الدقهلية- 1938) الى دراسة الجيولوجيا، بسبب فشله في دراسة الطب. نال البكالوريوس في ذلك العلم من جامعة اسيوط عام 1958. حصل على بعثة للدراسة في الولايات المتحدة، حيث نال الماجستير من جامعة «ميسوري» (1961) ثم الدكتوراه (1964). عاد الى مصر لفترة وجيزة، ثم هاجر الى أميركا في العام 1966. ومكّنه تخصّصه في الجيولوجيا من الحصول بسرعة على وظيفة في وكالة «ناسا». وأُسنِدَت إليه مهمتان متصلتان بهبوط أول رائد فضاء على القمر: المساهمة في اختيار مواقع هبوط المركبة «أبوللو-11»، وتدريب الرواد على وصف جيولوجيا القمر بطريقة علمية وسهلة وكذلك تدريسهم طرق جمع العينات من ذلك الجُرم. ومع نجاح «ناسا» في الوصول الى القمر (1969)، لمع نجم الباز عالمياً. واشتهر بصداقته مع رائد الفضاء نيل ارمسترونغ، أول من مشى على القمر. ثم أصبح استاذاً في جامعة «بوسطن»، مع مواصلة تركيزه على تقنيات اكتشاف التركيب الجيولوجي للأجرام السماوية، وضمنها الأرض، بأساليب الاستشعار من بُعد. واشتهر بعشقه للصحارى وبحوثها، أرضاً وفضاء. وطبّق أساليب اكتشاف الفضاء في دراسة الصحارى المصرية.
وسرعان ما وسّع دائرة دراسته الجيولوجية المتقدمة لتشمل الصحارى في شمال افريقيا والكويت وقطر والإمارات، إضافة الى صحراء الشمال غرب الصين. وضع مجموعة من الدراسات الاستراتيجية عن أعمار الصحراء في مصر، وسُبُل الاستفادة من مصادرها الطبيعية مع تركيز كبير على أهمية الاستفادة من المياه الجوفية.
ألّف الباز 12 كتاباً مثل «أبوللو فوق القمر» و «الصحراء والأراضي الجافة» و «حرب الخليج والبيئة» و «أطلس لصور الأقمار الاصطناعية للكويت» وغيرها. ووضع أكثر من 520 ورقة بحث علمي. حصل على أكثر من 31 جائزة، وشارك في قرابة 40 مجلساً وهيئة وجمعية علمية. وأنشأت «الجمعية الجيولوجية» الأميركة جائزة سنوية باسمه اسمها «جائزة فاروق الباز لبحوث الصحراء».
أحمد مغربي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد