المرأة التي مشت عبر الأبواب
رواية رودي دويل الأخيرة «بولا سبنسر» الصادرة عن دار «كيب» تكمل «المرأة التي مشت عبر الأبواب» التي نشرها منذ تسع سنوات. صدمت هذه قراءه بفضائها القاتم، وأحس وهو يكتبها بأنه «عبد للواقع». في «بولا سبنسر» ملامح انتصار على الإدمان القاهر الذي يصيب ثلاثة أفراد في أسرة واحدة. بولا الأرملة لم تشرب كحولاً منذ أربعة أشهر، وابنها جون بول يقاوم حاجة جسده الى الهيرويين، لكن شقيقته لين ورثت إدمان والدتها العنيد الذي أفقدها كرامتها وتحكمها بجسدها. صحوة بولا يرافقها لوم الذات، والرغبة في الغفران والاكتشاف انها خسرت السباق. عندما تذهب الى عملها في التنظيف لا ترى أحداً في سنها. فاتتها سنوات الازدهار في ايرلندا، وشقيقتها التي عملت منظفة مثلها تشتري اليوم شققاً في بلغاريا. تستفيق بولا على ما يحدث لأسرتها ولها لكنها لا تملك العمق الكافي لتحلل وتستكشف.
دويل الذي فاز ببوكر في 1993 عن «بادي كلارك ها ها ها» يختار أسرة ملعونة قد لا تبرر العبودية للواقع غلبته على الفن. لماذا يتكرر الإدمان في ثلاثة افراد في الأسرة الواحدة اضافة الى حماة أحدهم؟ ولماذا جعل الزوج قاتلاً تقتله الشرطة في اثناء سرقة مصرف؟ الناجيان الوحيدان من مبالغات الحياة ابنة متزوجة تتصرف كأنها أمل أمها، والابن الأصغر الذي يعمل في مشرب لكنه يصب ما في الزجاجة للآخرين فقط. هذه الجرعة المكثفة من القتام ليست قاتلة فحسب بل مبتذلة أيضاً، وان حاكت الحياة، وهي في الحالين لا تتمتع بجاذبية تذكر للقارئ.
علّم دويل الانكليزية ثلاثة عشر عاماً في دبلن ثم نشر «ارتباطات» على حسابه قبل أن يشتري حقوق الطبع ناشر بريطاني. اتبعها بـ «النهّاش» و «الشاحنة» فاكتملت ثلاثية كوميدية عن عيوب المجتمع الايرلندي الشمالي الذي راوح مكانه. ظرف دويل يخفي نزعة هوامة خفيفة، وفي «بادي كلارك ها ها ها» مزج العبث الطفولي بخلفية اجتماعية بائسة، مجرمة وجاهلة. في «نجم يدعى هنري» يتناول سعي ايرلندا الى الاستقلال في أوائل القرن العشرين، ويجمع العنف والجنس في أزقة دبلن. هنري رحل الى أميركا كأي ايرلندي صالح ودخل عالم تهريب الكحول والإعلان في الشوارع.
في «بولا سبنسر» ظهور متكرر للتغير الديموغرافي في ايرلندا التي هددها الازدهار في التسعينات بخسارة روحها. يقصدها الافارقة والطليان والأميركيون «وحتى الانكليز(...) كتبت عن عامل جص عاطل عن العمل في «الشاحنة». المشكلة اليوم هي العثور على عامل جص». الكاتب الملحد معجب بابتعاد الدولة عن الكنيسة، ويروقه تحطيم المقدسات. قال منذ سنوات ان جيمس جويس ليس أفضل الكتّاب الإيرلنديين بل ميورييل سبارك، وان «يوليسيس» احتاج الى مراجعة قبل نشره. محبو جويس «قصفوا وارعدوا فدهشت وتسليت». يقول اليوم ان الكتاب «تحفة لكنك تحس أحياناً أن هناك طفلاً كبيراً يتباهى».
- يستوحي جون لو كاريه محاولة الانقلاب الفاشلة في غينيا الاستوائية لروايته الأخيرة «أغنية الإرسالية» الصادرة عن دار هودر. يتناول قلب الظلام لا في القارة السوداء بل في أوروبا التي لا تيأس مطلقاً من استغلال ثروات افريقيا والتلاعب على قيمها الاخلاقية المعلنة. الكاتب الانكليزي الذي بدأ بـ «نداء للموتى» في 1961 واتبعها بروايته الشهيرة «الجاسوس الذي أتى من الصقيع» في 1963 اختار افريقيا قضية في عمره الثالث. بعد «البستاني الدائم» التي تناولت مؤامرات شركات الأدوية في أفريقيا، يتناول في «أغنية الإرسالية» تآمر بريطانيا على الكونغو لاستغلال معادنها الثمينة ونفطها.
بطل الكاتب (74 عاماً) شاب والده ارسالي ايرلندي وابنة رئيس قبيلة كونغولية برع في اتقان اللهجات المحلية في شرق البلاد وعمل مترجماً في بريطانيا. تجنده الاستخبارات في خطتها من دون ان تفصح عن طبيعتها، وإذ يكتشف المؤامرة يحاول وقفها فتلاحقه. يرسم لو كاريه الشخصيات بمهارة كعادته ويحاول جمع التشويق الهزل، لكن «البستاني الدائم» تبقى أكثر قدرة على جذب القارئ بالمطاردة والعنف وتفاصيل العملية. لا تكثيف في «أغنية الإرسالية» للشحنة الانفعالية كأن لو كاريه لا يستهدف الإثارة قدر رغبته في كتابة شهادة عن الازدواجية الغربية في مناطق المصالح. ثمة بحث عن الهوية أيضاً لدى الراوي الذي يتزوج صحافية انكليزية تخونه بلا هوادة فيجد الحب لدى ممرضة افريقية تسانده لدى هربه من الاستخبارات. الراوي محكوم بالأسرار منذ طفولته، فوالده يبعده الى جناح الخدم في الإرسالية ثم يرسله في انكلترا الى مدرسة داخلية كاثوليكية للسفاحين. لو كاريه يلقبه بـ «حمار الوحش» المخطط بالأبيض والأسود، ولئن استطاع ان يتصالح مع العرقين يبدو المستعمر السابق أكثر حسماً في تحديد لونه وهويته.
- سحر وليم بويد بلعبة الهويات والظاهر والخبيء في كل منا. اخترع منذ أعوام رساماً أميركياً دعاه نات تيت وكتب سيرته، ثم اجتهد على سيرته الذاتية في «أي قلب بشري» ليتضح انه لفقها ايضاً. روايته الأخيرة «قلقة» الصادرة عن دار بلومزبري تكشف الهوية الأخرى لأم كانت تقول لطفلتها كلما أساءت السلوك: «سيأتي أحد يوماً ليقتلني وستشعرين بالأسف عندها». تكتشف ان التهديد لم يكن فارغاً عندما تكبر وتزور أمها يوماً لتراها تراقب ما حولها بالمنظار. لم تكن سالي غيلمارتن بل إيفا دلكتروسكايا، المهاجرة الروسية الى باريس التي جندها البريطانيون للتجسس لهم في بلجيكا والولايات المتحدة بعدما قتل الفاشيون شقيقها. علاقة الابنة بالألمان ملتبسة، فهي حملت من استاذها الألماني المتزوج عندما كانت تحضر لأطروحة حول الثورة في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، ثم استقبلت في منزلها اعضاء في منظمة «بادر ماينهوف» المتطرفة.
يتجاهل وليم بويد الحداثة وما بعدها في الأدب ليركز على فن القص نفسه. لا تهمه الأناقة اللغوية أو الصناعة القصصية بل شد القارئ بقصة يريد معرفة تفاصيلها ونهايتها. حضّر جيداً لـ «قلقة» وزار الأماكن التي تدور فيها الأحداث وفصّل الشوارع والفنادق والازياء والآلات في تلك الحقبة. لا يهتم ببناء الشخصيات الأخرى، ويركز على البطلتين جاعلاً من الآخرين مجرد مسودات أحياناً. تتفاوت اللغة صعوداً وهبوطاً لكنه ينجح في كتابة رواية جاسوسية شيّقة. كثير من كتبه ترفيهية، يقول، ومنذ روايته الكوميدية الأولى «رجل طيب في أفريقيا» التي نالت جائزة ويتبريد رشح لخلافة ايفلين وو. على ان هذا رفيع النثر، سلسة، في حين يكتفي بويد بأن يطمح الى لغة مباشرة تبلغ القارئ بسهولة كما فعل غراهام غرين.
-- منذ عقد طلب من يان ليانكي، أحد أبرز كتاب الصين دعم مريضين بالإيدز حالياً لكن أحدهما توفي قبل أن يدفع القسط الأول وتبعه الثاني بعد أن دفعه. تنكر بهوية مساعد عالم اناسة لكي يطلع على أحوال أكثر المناطق إصابة بالمرض وأقلها شهرة. اكتشف ان السكان أصيبوا بهستيريا بيع دمهم لكي يشتروا البيوت والآلات الكهربائية ويقيموا حفلات أعراس باذخة. بعض الفلاحين أصيب بدوخة لفرط بيعه دمه وقلب رأساً على عقب لكي يهبط دمه في الأنابيب. استخدم كثيرون زجاجات صلصة الصويا وأكياس البلاستيك لكي يضع الدم فيها فظهرت الإصابات المريعة بالإيدز، وبعد أعوام نقلت جثة تلو أخرى الى المقابر.
بدأ يان يكتب واقعاً مطعماً بالفانتازيا في «حلم قرية دينغ» التي راقبها بنفسه بعد منع عدد من رواياته. كتب عن ضخ ملايين الليترات من الدم في أنابيب تحت الأرض تصل الصين بالولايات المتحدة وغيرها. لكن الرواية، التي صرف ثلاثة أعوام يحضر لها، منعت وأثارت غضب يان مرتين. يحس بالخزي للتنازلات الطوعية التي فرضها على نفسه وظنها كاملة. «راقبت نفسي بقوة. لم أذكر أسماء القيادات العليا، واختصرت المساحة». اكتشف ان الكتاب منع عندما قرر مقاضاة مجموعة شانغهاي لنشر الفنون الأدبية لامتناعها عن دفع المقدم والتبرع للقرية التي أجرى بحثه فيها. قد لا تكون الرواية أفضل كتبه بعد مراقبتها المخجلة، يعترف يان، لكنها بالتأكيد أكثرها إيلاماً. على انها ليست أول رواية تمنع له أو آخرها على الأرجح. تسبب بجدل أكثر من أي كاتب آخر في الصين لأن هؤلاء يرغبون في الشعبية في حين أتى هو من قاع المجتمع وعلم نفسه. لا يزال الفلاح مرتبطاً بالأرض، ولا يزال أقاربه يعيشون في هينان، إحدى أفقر مناطق الصين.
في 1994 منعت روايته «شاي ريولو» التي تناولت ضابطين مدججين بالأوسمة يسعيان الى نقل أسرتيهما الى المدينة ثم يختلفان ويتهمان أحدهما الآخر عندما ينتحر الطباخ تحت أمرتهما. اتهم يان بالإساءة الى الأبطال وأجبر على كتابة نقد ذاتي أربعة أشهر. في 2004 لم تجد السلطة ما يسر في «فرح» التي تناولت الطرق الغريبة التي حاولت بها الحكومات المحلية جذب السياح فطردته من الجيش. في الرواية تطلب الحكومة من سكان قرية معاقين تنظيم سيرك جوال لشراء جثمان لينين بالأرباح وجذب السياح. العام الماضي غضبت السلطات مجدداً لانتقاده ماو تسي تونغ في «اخدم الشعب». تحطم فيها زوجة جنرال صور ماو وكتابه الأحمر مع عشيقها وتبول على قصائده. دفع منعها يان الى مراقبة نفسه في «حلم قرية دينغ» لكنها منعت مع ذلك فخشي من أن تكون الرقابة الذاتية أودت بانفعاله ولبّدت حدته. متفائل مع ذلك، يتعرض أقل للهجوم مع كل رواية جديدة مما يعني ان المجتمع يتطور وينمو.
مودي بيطار
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد