المثقف العربي يغترب مرتين في «المترجم الخائن»
أقام فواز حداد روايته «المترجم الخائن» (دار رياض الريس، بيروت 2008) على أطروحة مزدوجة: ارتهان المثقف إلى السلطة الذي يحوّل المثقف الصغير إلى سلطة ثقافية كبيرة، واغتراب المثقف النزيه عن السلطة التي تسوّق المثقفين الصغار من ناحية، وعن المثقفين المتسلطين الذين يسوقون المعايير الزائفة، من ناحية ثانية. ومع أن رواية حداد تتوقف أمام السلطة التي تستبدل بالنزاهة الولاء، فهي تقف وتطيل الوقوف أمام عالم المثقفين «النتن»، الذي عماده مثقف سلطوي أشد عنفاً من السلطة، وأكثر منها غلظة وجوراً وتزويراً. ولهذا يبدو المثقفون الصغار المستجيرون بالسلطة، جملة أرواح متفسّخة تغتال الثقافة باسم الثقافة، وتستبدل بأخلاق الكتابة كتابات واشية.
في رواية موضوعها «الانتيليجنسيا الرثّة»، إن صح القول، يقدّم حداد منظوراً جديداً للاغتراب الثقافي، إذ المثقف النزيه مغترب عن المثقفين قبل غيرهم، وإذ ما يدعى بالمثقفين قوة وحشية تقتات بأرواح المدافعين عن الثقافة وعيونهم وأقلامهم. استدعى هذا المنظور، إلى الفضاء الروائي، الرعب والسخرية والمعابثة المرعبة وريحاً باردة تعصف في أركان كالحة أقرب إلى المقبرة. ولعل العنف الكتابي، المدافع عن الجمال، هو الذي أملى على الروائي أن يذيب في نصه أشياء من «علم اجتماع الثقافة»، وأن يجعل من عناوين الفصول عنصراً أساسياً في القراءة، يجمع بين العبث والإدانة، وبين المرارة الطاغية وصرخة تحوم فوق المقبرة وبساتين محتملة. ولهذا يقدّم حداد فصولاً طويلة، تبدو تزيّداً وما هي بالتزيّد، عن ألوان المثقفين ومصادرهم الاجتماعية، وعلاقة الثقافة بالأحزاب السياسية، وعن تلك «الأيديولوجيات الخطابية»، التي تنتج كتّاباً يحسنون الوعظ والخطابة، ويكرهون الإبداع والمبدعين. غير أن أهمية رواية حداد لا تأتي من مضمون القول، فهو شائع في شكله الصائب وشكله الركيك، إنما تصدر عن البناء الروائي، الذي يصرّح بـ «دينامية التداعي»، التي تستولد من «المثقف الرثّ» صفوفاً من مثقفين لا أرواح لهم, وتقسم المثقف المغترب قسمة متوالدة إلى حدود التفتت.
وزّعت الرواية المثقف الرث على صور متكاثرة: المثقف المافيوي، المثقف المقنّع، المثقف المقاول، وصولاً إلى المثقف العصابي والقوّاد والشاذ، وذلك الذي يريد أن يصبح قاتلاً فعلياً وينتظر المناسبة... اشتق الروائي «المقولات» – أنواع المثقفين – من صور تُرى وتُلمس ويخترق فحيحها الأبواب والنوافذ، إذ للمثقف المخترع، الذي جاءت به الصدفة، مكتب وحاشية وسكرتيرة وصحيفة وعمود يومي، وله تلك الابتسامة المتخثّرة التي توسّدت وجهاً يقول شيئاً ويضمر شيئاً آخر. استولد الروائي من دينامية التداعي تشجّر الصور، كما لو كانت للأرواح الميتة سوق عامرة، تعرض بضاعة موحدة مختلفة الألوان، تساوي بين الأمانة والخيانة وبين هندسة الخراب والإبداع المسؤول. وإذا كان التداعي الطليق يوزّع المثقف السلطوي على صور متنوعة هي صورة واحدة في نهاية المطاف، فإن هذا التداعي، الذي يكره المساحات الضيّقة، يتسلل إلى المثقف المغترب، من دون أن ينتزع منه الروح. فهذا الأخير يخسر قوته ومهنته واستقراره، وينتهي منسياً على قارعة الطريق. فهو «خائن»، لأنه يريد أن يقول قوله حراً. و «الخائن» غير جدير بالحياة ولا وجود له، ودليل غيابه غياب اسمه، ذلك أن إعادته إلى الحياة تستلزم اسماً جديداً، والعثور على مهنة يقضي باسم مخترع، وسد الحاجة والقبول بأكثر من مهنة يتطلبان أسماء كثيرة تدفن الاسم الأصلي.
يتوزّع المغترب على مهن لم يخترها، ويحمل من الأسماء ما شاءت له الحاجة أن يحمل، ويكتب ما طلب منه كتابته بمنظور غريب عنه. والنتيجة إنسان يتداعى، مثقل بالأسماء الطارئة، ومرهق بأكثر من مسؤول ومدير، ومجهد وهو يأخذ بتصورات غيره ويطرد تصوره الذاتي. يضيف المغترب إلى شخصيته المهجورة شخصيات متصارعة متصادمة متنافرة فرضها عليه القدر، تملي عليه لغات مختلفة، وأسلوباً عليه أن يتعوده، ومعايير لا يقرّها لو كان حراً، وتملي عليه أيضاً ألاّ يخلط بين أسمائه الكثيرة. بل ان على الشخصية التي «أعدم» اسمها أن تصالح بين الشخصيات الطارئة الوافدة، لأن تحقيق الصلح بينها شرط استمرار العمل والحصول على الرغيف.
لا يتبقى من المغترب الأصلي شيءٌ، لا الاسم ولا المهنة ولا حق الرفض والاختيار، بعد أن تحوّل إلى «كائن بيولوجي»، صاغه قمع الرغيف وأقلام كتّاب الصدف السلطوية. رفع فواز حداد تشظّي المثقف المغترب إلى أعلى مستوياته رعباً، معطياً المأساة شكلاً فانتازياً، فالفانتازيا احتجاج على ما جاوز معقوليته، وموحداً بين المرعب والساخر، لأن الرعب الذي يجاوز حدوده يطلق السخرية. تنطوي رواية «المترجم الخائن»، في بنيتها الحكائية العميقة، على تراجيديا وشبه تراجيديا في آن: تراجيديا تحيل على قوة قاهرة تئد الإنسان، رمزياً، وهي تمحو اسمه وتعيد خلقه بأشكال مختلفة كما تشاء، وهي شبه تراجيديا لأن المغترب الذي سقط عليه عقاب كالقدر استطاع الخلاص. ولعل النهاية التي اختتم بها الروائي عمله الطويل (485 صفحة) هي التي تفصل بين تداعي الأرواح الميتة، وتداعي المثقف المغترب، الذي يلوذ بسرد روايته، مقتنعاً بأن الرواية هي الحياة، وأن الحياة مهما كانت أحوالها لا تموت. في جملة من جمل كثيرة تستحق التأمل يقول فواز: «الرواية تحتوي على واقع لا يمكن تجاوزه، بينما الواقع يحتوي على رواية لا يمكن تفاديها» (ص 475).
يوحّد الروائي بين المعرفي والأخلاقي، إذ الواقع مرجع الرواية وأستاذها النجيب، وإذ الحياة رواية رحبة تحتفي بها كل الروايات. يدور الأمر، في الحالين، في مجال القيم، لأن قيم الإبداع الروائي بحث عن قيم الحياة المبدعة. نقل حداد «الخيانة» من حقل الترجمة إلى الكتابة الروائية، مبرهناً أن الذات المبدعة تقرن بين النقل والانزياح. فالمترجم المبدع يبدأ بنص وينتهي إلى نص يكون حاضراً فيه، منتجاً، في النهاية، نصاً ثالثاً هو حوار بين النص الأصلي والنص المترجم. وكذلك حال الروائي، الذي ينقل الواقع ويشرحه، كاشفاً عن قدر «الإنسان المغترب»، الذي تتصادم فيه شخصيات مختلفة.
فيصل دراج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد