المئذنة من الوظيفة إلى الدلالة الرمزية
المئذنة وحدة معمارية أصبحت مع القبة رمزاً دالاً على المسجد موضع عبادة المسلمين، وهي موضع الآذان للصلاة، لفظها من الفعل «أذّن»، وقيل لها أسطوان، مطمار، زوراء، منارة، منار، صومعة. لما كان الغرض من الأذان هو الإعلام بدخول وقت الصلاة والدعوة إلى الجماعة فقد كان من الطبيعي أن يكون بصوت عال مسموع كي يؤدي الغرض الذي شرع من أجله، ومن الطبيعي أن تتبلور فكرة المئذنة معمارياً في تكوين معماري بسيط للغاية في عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فإنه كلما كان الأذان معلنًا من مكان مرتفع، كلما صار مسموعاً لمسافة أبعد ولعدد أكبر.
قال ابن إسحق، حدثني محمد جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن إمرأة من بني النجار قالت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن عليه للفجر، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر فإذا رآه تمطى ثم قال اللهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن والله ما علمته كان يتركها ليلة واحدة، لكن حدث تطور آخر وأعيد تشييد المسجد النبوي في عصر الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، فرفع بناء فوق سقف المسجد ليؤذن من عليه بلال، ذكر هذا ابن سعد في الطبقات المجلد الثامن، ويمكن تخيل هذا الارتفاع على أنه كتلة بنائية من اللبن في ركن المسجد، حيث يتيسر إقامتها، فإنه لا يمكن إقامتها فوق سقف المسجد المكون من عوارض وسعف وخصف على سوار من جذوع النخل، كما يمكن أن نتخيل الرقي إلى أعلى هذه الكتلة بوساطة أقتاب أي درجات توضع فوق أحد جدران المسجد، وإذا عرفنا أن سمك جدار مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد التوسعة في عهده كان بمقدار لبنتين مختلفتين وهو ما يعادل لبنة ونصف اللبنة، أمكننا القول إن سمكه كان يقارب 80 سم، وهو قدر يسمح باستغلاله لبناء تكوين بسيط مربع القاعدة يمكن الرقي عليه للأذان.
ويذكر السمهودي نقلاً عن ابن زبالة مرحلة أكثر تطوراً واستقلالية من المرحلة السابقة عن مكان الأذان ووصفه وهي مرحلة انتقلت فيها المئذنة من مجرد كتلة معمارية بسيطة للغاية تعلو جدار المسجد النبوي إلى مرحلة تميزت فيها المئذنة بكيان معماري مستقل يعد النواة الأولى لنشأة المئذنة خلال عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) إذ أورد ما نصه: «قال ابن زبالة: حدثني محمد بن إسماعيل وغيره قال: كان في دار عبدالله بن عمر إسطوان في قبلة المسجد يؤذن عليها بلال يرقى إليها بأقتاب (درجات) والأسطوان مربعة قائمة إلى اليوم يقال لها المطمار، وهي في منزل عبيدالله بن عبدالله بن عمر».
ووجود أقتاب يعني أن المطمار كان عالياً وهو أمر تتحقق به الفائدة الانتفاعية وهي الإعلام لأكبر عدد ممكن من سكان المدينة، وقد أطلق عليه عبدالعزيز بن عمران اسم «منارة» ولكن السمهودي يرى أن في إطلاق مسمى منارة تجاوزاً من عبدالعزيز بن عمران.
إذاً، المطمار كان ذا تكوين معماري مربع من قاعدته إلى أعلاه يرقى إليه المؤذن من خلال أقتاب تلتصق به من إحدى جهاته الأربع، كما يتضح أن المطمار كان يصعد إليه من خارج المسجد النبوي، لكن حدث تطور مهم في عمارة المآذن في المسجد النبوي في عصر عثمان بن عفان، أورده لنا المؤرخ يحيى بن حسين في غاية الأماني، وذلك في سنة 29 هجرية، إذ ذكر فيها «زاد عثمان في مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) الزيادة العظيمة وجعل طوله مئة وستين ذراعاً، وعرضه مئة وخمسين ذراعاً، وحُصلت له الحجارة من بطن نخل، ووضع في عمده الرصاص، وجعل أبوابه ستة على ما كانت عليه في عهد عمر، ومن مآثر عثمان بناء المنارات للأذان وكانت في زمنه مربعة الشكل»، ومنذ عصر عثمان بن عفان انتشرت المنارات أو المآذن في مساجد المدن الإسلامية كالبصرة والكوفة وصنعاء والفسطاط.
نستطيع أن نستخلص مما سبق أن التصميم المربع للمئذنة خلال عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المسجد النبوي من قبل المعمار المسلم صار المثل الذي احتذاه المعماريون المسلمون في ما بعد في بناء المآذن في المساجد التي تلت مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وجعل المعمار سلم الوصول إلى هذه المآذن من مراق خارجها.
يجمع علماء الآثار على أن أقدم مئذنة باقية هي مئذنة جامع القيروان التي تنسب إلى والي القيروان بشر بن صفوان في ما بين سنتي 105 و109 هجرية (724 و729 ميلادية)، على أساس الأدلة التاريخية، وإلى 221 هجرية/ 836 ميلادية، على أساس الأدلة المعمارية، وهي في الحالة الثانية تعد ثاني الأمثلة الباقية إذ تسبقها منارة قصر الحير الشرقي في بلاد الشام والتي تؤرخ في حوالى 110 هجرية/ 730 ميلادية، والتكوين المعماري للمئذنتين مربع، وهو الأمر الذي يدل على أن التكوين المربع للمئذنة خلال عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المسجد النبوي صار المثل الذي احتذاه المعماريون المسلمون في ما بعد في بناء المآذن.
وكان للمآذن في المدن الإسلامية وظائف عدة ففضلاً عن وظيفة الأذان للإعلام بمواقيت إقامة الصلاة، تعد دليلاً على الحي أو على الشارع، وأداة لإرشاد القادمين في خارج المدن، كما كانت تقاد في أعلاها النيران للتنبيه بقدوم عدو، إذ كانت المدينة التالية ترى بالدخان نهاراً وبالنيران ليلاً ثم التالية إلى العاصمة، كما كانت الحال في مآذن شمال إفريقيا والمآذن الممتدة من الإسكندرية فرشيد ففوة عبر دلتا النيل إلى العاصمة القاهرة. ولأهمية هذه الوظيفة فقد ذكر المؤرخون أن الخبر كان يصل من سبتة على مضيق جبل طارق إلى الإسكندرية في ليلة واحدة وبينهما مسيرة أشهر.
وتنوعت أشكال المآذن من الأندلس إلى الصين، فأعطت للعمارة الإسلامية رونقاً خاصاً، إذ كان لكل إقليم شخصيته المعمارية التي تظهر بوضوح في مآذنة لكن في الوقت نفسه تجمع هذه المآذن روح العمارة الإسلامية، بحيث لا تكاد العين تراها من بُعد وتقرنها بمسجد يصلى فيه.
لكن أشهر مآذن العالم الإسلامي مئذنة الجيرالدا، وكانت قد شيدت لجامع إشبيلية ثم حول المسجد إلى كاتدرائية، واستبدل الجوسق العلوي للمئذنة بنهاية أخرى على طراز عصر النهضة الأوروبي. والمئذنتان الملويتان لجامع سامراء وجامع أبي دلف تعدان نموذجاً فريداً لعمارة المآذن، أما مئذنة الرقة التي بقي منها بدنها الأسطواني حتى شرفة المؤذن، كانت الأساس الذي شيدت عليه حلقات من المآذن الممتدة من العراق حتى شرق آسيا، لكن يستوقفنا في هذه المساحة الجغرافية الهائلة مئذنة قطب منار في الهند، هذه المساحة التي تميزت مآذنها باستدارة البدن ونحافته وارتفاعه الكبير الذي يبدأ من فوق قاعدة تبدو غاية في القصر إذ ما قورنت بارتفاعه. هذا ويضيق قطر هذا البدن كلما ارتفع إلى درجة ملحوظة حتى يصل إلى شرفة المؤذن التي عادة ما تحملها صفوف من المقرنصات، وغالبًا ما يستمر البدن فوقها إلى ارتفاع آخر تتوجه صفوف أخرى من المقرنصات، بل قد يأتي بدن رفيع ثالث تغطيه قبيبة غالباً ما تكون على شكل البصلة.
وعن مئذنة منار قطب الدين أيبك «قطب منار» والتي توجد منفصلة عن المسجد الأصلي فتتخذ مسقطاً مستديراً يستدق قطره كلما اتجهنا إلى أعلى.
وتتكون هذه المئذنة من خمس طبقات يفصل بينها أربع شرفات مستديرة مستندة إلى كوابيل منفذة بطريقة زخرفية رائعة، وتتخذ الطبقات المكونة للمئذنة الشكل الآتي: الطبقة الأولى: مضلعة على هيئة نصف اسطوانة، وشكل مثلث بالتبادل يمتد عليها أفاريز من الكتابات القرآنية محفورة على الحجر. الطبقة الثانية: أقل قطراً من الطبقة الأولى مضلعة بتضليعات بارزة نصف اسطوانية، ويمتد على بدن المئذنة شريطان كتابيان منفذان بالحفر البارز.الطبقة الثالثة: أقل قطراً من الطبقة الثانية ومضلعة بتضليعات متجاورة وبارزة. الطبقة الرابعة: إسطوانية غير مضلعة ملساء خالية من الزخارف وأقل قطراً وارتفاعاً من الطبقات الثلاث السفلى.
الطبقة الخامسة: إسطوانية ملساء تفصل بينها وبين الطبقة الرابعة شرفة تستند إلى كوابيل أقل زخرفة من الشرفات الثلاث السفلى، وتنتهي من أعلى بشرفة يتوسطها بدن صغير تعلوه قمة المئذنة.
وهذه المئذنة مثل فريد لم يتكرر طرازه في العمارة الهندسية بعد ذلك ولا في أي بلد آخر، وتعد من أجمل المآذن ليس في الهند فحسب بل في العالم أجمع.
وفي العصر المملوكي أصبح للمئذنة قاعدة مربعة المسقط قصيرة الارتفاع، يعلوها بدن مثمن في أغلب الأحيان أو مستدير في حالات قليلة، وينتهي بصفوف المقرنصات الصغيرة التي تحمل شرفات المؤذن، ثم يأتي الجوسق الذي تنوعت أشكاله من مثمن إلى مستدير وله جدران مصمتة أو مفرغة. وقد تنوعت المآذن بداية من عصر المماليك البحرية لتخضع إلى نظام مآذن المباخر، ونشهد أمثلة ذلك في مئذنة زاوية الهنود 1250م، والتي تكاد تكون صورة طبق الأصل من مئذنة الصالح نجم الدين أيوب، والتي تتألف من بدن مربع مرتفع تعلوه طبقة مثمنة، فعنق مثمن تعلوه مبخرة، كما تحتفظ مئذنة أحمد بن طولون التي أقامها السلطان لاجين بنفس هذا النوع من المباخر.
وعن الطبقة المستديرة للمئذنة فقد ظهرت للمرة الأولى في مئذنة سلار وسنجر الجاولي، وقد أصبحت منذ ذلك الوقت عنصراً مهماً في نظام المآذن المباخر، وترتفع هذه الطبقة المستديرة فوق طبقة مثمنة تشبه نظيرها بمئذنة زاوية الهنود فيما عدا اشتمالها على صف واحد من المقرنصات بجوار القبتين المتجاورتين، وقد فتحت بكل وجه من أوجهها نافذتان، بينما تشتمل مئذنة زاوية الهنود على صفين يعلو أحدهما الآخر، والشرفة التي تتوج هذه الطبقة بمئذنتي الصالح نجم الدين والمنصور قلاوون، وتسند هذه الشرفة ثلاثة طبقات من المقرنصات.
وفي العصر المملوكي أصبح للمئذنة قاعدة مربعة المسقط قصيرة الارتفاع، يعلوها بدن مثمن في أغلب الأحيان، أو مستدير في حالات قليلة، وينتهي بصفوف المقرنصات الصغيرة التي تحمل شرفات المؤذن، ثم يأتي الجوسق العلوي الذي تنوعت أشكاله من مثمن إلى مستدير وله جدران مصمتة أو مفرغة.
وفي ذلك العصر تسربت التأثيرات الفنية الأندلسية إلى مصر، التي انتقل إليها كثيرون من المهاجرين من الأندلس من الصناع وأرباب الحرف، ونشهد هذه التأثيرات في مئذنة مدرسة قلاوون ممثلة في أعلى القاعدة مربعة، إذ نرى إفريزاً من المقرنصات يشبه إفريز العقود المتجاورة المتشابكة الذي نراه في مئذنة جامع إشبيلية وغيرها من مآذن الموحدين، كذلك تتضح لنا هذه التأثيرات في الطبقة الثانية حيث إفريز العقود الثلاثية الفصوص الذي يعلوها، وفي العقد المتجاوز الذي يتوسط هذه الطبقة بأوجهه الأربعة، كما أن الطبقة الأخيرة تمثل شبكة من المعينات تشبه ذلك النوع من التشبيكات التي ظهرت في واجهة بهو الجص بقصر إشبيلية وزخارف المعينات بالجيرالدا، ونرى هذه التأثيرات الأندلسية في تفاصيل الزخرفة الجصية بمئذنة مسجد الناصر محمد بالنحاسين وعقود مئذنة مسجد سنجر الجاولي.
وقد استمر ذلك النموذج من المآذن منتشراً طوال العصر المملوكي الثاني وحتى أوائل العصر العثماني إلى أن حل محله نموذج آخر عرف بالقلم الرصاص، فقد انحصر تصرف المعماريين في العصر العثماني في تخطيط بيت الصلاة في توزيع بدنات أو دعامات ضخمة في منطقة وسطى على شكل مربع أو دائرة أو تكوين هندسي منتظم متعدد الأضلاع، وتُغطى تلك المنطقة الوسطى بقبة، وتُغطى المناطق والزوايا المحصورة بينها والجدران الخارجية بأنصاف قباب كبيرة أو صغيرة أو بقبيبات، وينتج من كل تلك التكوينات كتلة بنائية ضخمة تكثر فيها الانتفاخات المتكورة، وهي كتلة لا تتناسب ولا تتفق مع المآذن الكثيرة تشهد للبنائين بالمهارة الفائقة في أساليب البناء بالحجر، ويتمثل هذا الوصف في مساجد عدة في استطنبول مثل جامع السليمانية بمآذنه الأربع، والتي تميزت بالإضافة إلى نحافتها المبالغ فيها، باستدارة بدنها كله تقريباً والتي تكون معظمها من حزمة من قنوات مقعرة أو ضلوع محدبة في وضع رأسي، وتحزمها نطاقات أفقية عدة هي شرفات للمؤذنين تحملها صفوف مقرنصات دقيقة، ويقسم البدن أشرطة إلى طبقات عدة، ويرتفع البدن عادة فوق قاعدة مربعة قصيرة تبدأ من مستوى الأرض وذلك في معظم أمثلة المآذن العثمانية، ثم تنتهي المئذنة في طرفها العلوي بمخروط ذي قمة حادة الزاوية، هي غالباً مقتبسة من النهايات الرمحية الشكل التي تتوج بها قمم الأبراج في كنائس العصور الوسطى الأوروبية وبخاصة من الطراز القوطي ومن طراز النهضة، وقد عُرف هذا الشكل من المآذن بنموذج عرف بالقلم الرصاص لشبهه به.
خالد عزب
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد