القضاة والمداجن
الجمل- د. عمار سليمان علي: تقول الحكاية المتداولة: إن قاضياً معروفاً بارتكاباته وتجاوزاته جمع خلال سنوات قليلة من ممارسته للقضاء ثروة طائلة من بيوت وسيارات وعقارات وأسهم وأرصدة, وعلى الرغم من أنه لم يسجل شيئاً من ثروته باسمه أو باسم زوجته أو أبنائه أو أقاربه, وعلى الرغم من حرصه الشديد على أن لا تظهر عليه أو عليهم مظاهر الثروة الفاقعة, إلا أنه كلما سئل عن موضوع ثروته الضخمة يعترف بها ضمناً ويقول لسائله: كل هذا من دخل المدجنة التي ورثتها عن والدي رحمة اللـه عليه. وبالفعل كان الرجل قد ورث مدجنة صغيرة عن والده. تضيف الحكاية: إن قاضياً آخر من نفس الصنف جمع ثروة لا تقل عن ثروة الأول ـ وارث المدجنة ـ ولكنه لقلة فهلويته سجلها باسمه وباسم زوجته وأبنائه وأقاربه, وظهرت عليه وعليهم علائم الثروة التي "تقلع العين", فكثر الكلام والنم والتنقير عليه, فما كان من القاضي الأول ـ وارث المدجنة ـ إلا أن أشار على زميله بكل جدية: يا زميلي ليس عليك إلا أن تؤسس مدجنة وتقول: كل هذا من دخل المدجنة!.
طبعاً يمكن أن يكون القاضي في الحكاية السابقة طبيباً أو مهندساً أو أستاذاً جامعياً أو موظفاً كبيراً أو مديراً مهماً أو محافظاً أو وزيراً, ويمكن أن تكون المدجنة متجراً أو مطعماً أو سيارة عامة أو أرضاً زراعية أو .. أو ... حيث أن الحكاية خارجة عن الزمان والمكان, وإن كانت تصلح لكل زمان ومكان, فهي ـ رغم واقعيتها وأشدد على واقعيتها ـ حكاية رمزية. ولكني أظن أن هذا لن يمنع محبي الصيد في المياه العكرة, وهواة تتبع السقطات والعثرات, من الزعم أنني حسود وذو "عين ضيقة" ولست ابن هذا الزمن, وأنني أتطاول وأنتقد القضاء في سوريا, وهذا كله بالطبع غير صحيح لأنني ببساطة لست الشخص المخول بالكتابة عن القضاء فضلاً عن انتقاده. ومن كان يبحث حقاً عن نقد علمي وموضوعي ومنطقي للقضاء في سوريا خصوصاً وفي الدول العربية عموماً فعليه بقراءة كتاب "القضاء بين الواقع والتحديات" الصادر حديثاً عن دار أعراف ـ منشورات ملتقى النقد والإبداع. وهو عبارة عن دراسة نقدية مقارنة لواقع القضاء واستشراف آفاق الإصلاح, ويحاول أن يسلط الضوء على مكامن القوة والضعف في القضاء الذي تصفه مقدمة الكتاب بالحاضر الغائب وفي هذا من الإيحاء والاختزال والتكثيف مافيه, كما يقدم الكتاب اقتراحات جريئة وجديرة بالاهتمام على الصعيد القضائي. مؤلف الكتاب هو المحامي النشيط والمتميز (ليس لأنه شقيقي) عبداللـه سليمان علي الذي نشر خلال السنوات الأخيرة العديد من الدراسات القانونية الممتعة والمتميزة على صفحات الانترنت في مواقع النزاهة والجمل وكلنا شركاء وسواها. وقد أهدى كتابه ـ في لفتة جميلة ومعبرة ـ إلى سيادة القاضي العربي المختار اليحياوي الذي عزل من منصب القضاء فتربع على عرش الحقيقة في بلده تونس, ونقل عنه قولاً ذهبياً: "نكتشف أننا نبعث من جديد في عالم الصدق والصفاء, بعد أن كدنا نبلى في عالم العتمة والنفاق". أما مقدمة الكتاب فهي بقلم المحامي الأستاذ عمران أحمد عمران عضو مجلس الشعب حالياً ورئيس مجلس فرع نقابة المحامين بطرطوس سابقاً, وهو غني عن التعريف.
وبالعودة إلى القاضي وارث المدجنة فقد رفض على ما يزعم الرواة اقتناء هذا الكتاب رغم أنه عرض عليه كهدية ولن يدفع قرشاً من ثمنه, وقال هازئاً أو جاداً وهو يربت على بطنه: القضاء بألف ألف خير ولا يحتاج للمنظرين والمصلحين. وأضاف على ذمة الرواة أيضاً وأيضاً: ألم يكن من الأفضل لمؤلف الكتاب أن يستثمر الأموال التي أنفقها على طباعته في تأسيس مدجنة؟!. طبعاً هذا لن يحصل, ولكنه ربما يشكل حافزاً قوياً للمؤلف لكي يكون كتابه القادم بعنوان "القضاة والمداجن".
الجمل
إضافة تعليق جديد