القدس تُخضع «إسرائيل»!
رد الفعل لم يكن مفاجئاً لأنه أتى بعد سلسلة من القرارات التي عادت عنها أو أجّلتها، سواء الشرطة أو المحاكم الإسرائيلية أو حتى الحكومة نفسها. ففي المشهد العام، حاولت الشرطة السيطرة على باب العَمود ومنع الفلسطينيين من استخدام وجه البلدة القديمة كحيّز اجتماعي عام لقضاء ليالي رمضان، ولكنّ عناد المقدسيين وصمودهم، أجبرا الشرطة أكثر من مرّة على إزالة الحواجز الحديدية. المشهد في حي الشيخ جرّاح المهدد بالهدم والإخلاء لم يكن مختلفاً، فإصرار أهالي الحي والمتضامنين معهم، والاشتباكات اليومية التي حدثت هناك، كلّ ذلك أجبر عضو الكنيست المتطرّف، ايتمار غفير بن غفير، على إزالة المكتب الذي أقامه في الحي تحدياً لأهله، بأمر من رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو نفسه.
أمّا بالنسبة إلى المسجد الأقصى، فلم يكن الحال مختلفاً، إذ أن محاولات السيطرة عليه وتحديد مواقيت الصلاة وكيفية قضاء الوقت داخله وقطع أسلاك مكبّرات الصوت، وأخيراً استفزاز المصلين واقتحام الشرطة له، ومن ثم اعتدائها بشكل همجي على المصلّين، انتهت أمس بمشهد 90 ألف مصلٍّ في الأقصى وباحاته!
على هذه الخلفية، أجمع المحللون الإسرائيليون اليوم، على أن ثمة أزمة على مستوى اتخاذ القرارات، نابعة من وجود أزمة سياسية في عدم القدرة على تشكيل حكومة جديدة حتى الآن. وفي هذا الإطار، رأى المحلل العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، يوسي يهوشوع، أن الأزمة السياسية القائمة في إسرائيل، والتي أتت بالتزامن مع سلسلة من الأسباب التي صاعدت وتيرة التوتر الأمني، تشير إلى أن نتنياهو «محدود في قدرته على التجاوب مع الأحداث، لذلك يسود اعتقاد بأن الاحتجاجات قد تتكثف وتتسع».
يهوشوع ذهب أبعد من ذلك، ليربط بين ما يحصل في الإقليم، بوصفه سبباً لخلق ثغرة في هيكلية اتخاذ القرارات، تجاه التعامل مع الأحداث في القدس، مشيراً إلى خطاب الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، في «يوم القدس العالمي»، أمس، لفت إلى أن إسرائيل تخشى بشدة تقوية محور المقاومة، في مقابل إضعاف الهيئات والمندوبين المعارضين لهذا المحور. ورأى يهوشوع، أن إلى جانب كون «الجيش الإسرائيلي غير متأكد من قدرته على التعامل مع النيران من عدة جهات، في حال نشوب حرب متعددة الجبهات، ثمة أمر آخر يتمثل في عزلة كبار مسؤولي الأمن، وأولهم رئيس الأركان أفيف كوخافي، ورئيس جهاز الأمن العام، نداف أرغمان، ومفوّض الشرطة يعقوب شبتاي، الذين يتعيّن عليهم اتخاذ قرارات بمعزل عن الأحداث السياسية الدائرة».
الفراغ في أداء المستوى السياسي يتمثّل، بحسب المحلل العسكري، في الأحداث التي شهدتها القدس نهاية الأسبوع: «عندما لم يعمل نظام المعلومات على الإطلاق، وكانت التغطية الإعلامية العالمية من طرف واحد، ولم يستجب المستوى العملياتي ولا الدبلوماسي». يهوشوع وصف ذلك بأنه «أزمة حساسة ومتفجّرة»، حيث «تُشعل كلّ صورة فلسطينية وفيديو فلسطيني المنطقة أكثر، بينما من ناحية أخرى، لم تُنشر أيّة فيديوهات تدعم الرواية الإسرائيلية».
إلى جانب ذلك، اعتبر أن المحادثات «الهادئة» مع الدول العربية «لم تجر في الوقت المناسب». وبرأيه «تلقّت إسرائيل إدانات من جميع الدول العربية تقريباً، بما في ذلك الدول الصديقة لإسرائيل». علماً أن السبب ليس صحوة ضمير هذه الدول، وإنما لأن الأحداث التي شهدتها القدس أحرجت هؤلاء.
ويعتبر يهوشوع، أن أحد أسباب أزمة اتخاذ القرارات يكمن أيضاً، في أن «كبار مسؤولي الجيش والشاباك معطّلون ومنشغلون بإغلاق الصفقات الأخيرة للحكومة المقبلة، والمعركة من أجل بقاء نتنياهو». الأمر الذي «يصعّب إدارة أزمة أمنية بهذا الحجم». وإضافة إلى هذا كلّه، فإن «الجناح العسكري لحماس في غزة، وحتى خطاب أبو مازن، صبّا الوقود على نار القدس».
أمّا بالنسبة إلى التعزيزات الأمنية التي دعم بها جيش العدو فرقة الضفة، فرأى المحلل العسكري أنها «لن تساعد. يجب رمي بطّانية لتهدئة المنطقة، حتى لو لم تكن إسرائيل هي المسؤولة». وأضاف أنه «يجب أن نمرر يوم القدس (اليهودي) غداً بسلام». وأمِل أن تبقى مناورة «عربات النار» التي افتُتحت في إسرائيل، وتحاكي حرباً متعددة الجبهات، «فقط في المقر العام للجيش، لا أن تذهب إلى وضع حقيقي».
من جهة ثانية، اعتبر المحلل العسكري لصحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، أن ما حصل يوم الجمعة الماضية، من اقتحام الجنود للأقصى والاعتداءات على المصلّين، «سيكون له تأثير أسوأ على صورة الوضع. فهذه مشاهد يمكن أن تشعل موجة عنف أشد داخل الخط الأخضر، في القدس ومناطق الضفة الغربية».
واعتبر أن «هناك مشكلة، تكمن في صلبها القرارات التي تتخذها الشرطة، وخاصة في القدس، طوال شهر رمضان. فبعد الخطوة الغبية بوضع الحواجز عند باب العَمود، في بداية الشهر، جاء التراجع وإخلاء هذه الحواجز». وأضاف أنه «إذا استُهدفت كرامة الشرطة، ثمّة شك إذا كانت الطريقة للتغطية عليها بواسطة المس بالمشاعر الدينية للمسلمين في المسجد». وتابع: «ليس واضحاً بعد إذا كان أداء الشرطة في هذه الأيام نتيجة إملاءات سياسية مباشرة أم نتيجة مبادرة مستقلة من جانب قيادتها، لكن يبدو أن شيئاً ما أساسياً جداً أثّر في ترجيح الرأي لدى المفتّش العام للشرطة (يعقوب شبتاي) وضباطه».
ووفقاً لهرئيل، فإن التصور السائد لدى جهاز الأمن الإسرائيلي، هو أن «الأيام المقبلة مصيرية»، والسبب أن هناك «عشرات آلاف المصلّين سيصلون إلى المسجد الأقصى، فيما ينظّم اليمين الإسرائيلي مسيرة الأعلام حول أسوار القدس». وبسبب أنه قد يحصل احتكاك عنيف بين عناصر اليمين الصهيوني والفلسطينيين، فإن جهاز الأمن يبحث «في تقصير مسار مسيرة الأعلام».
وأضاف أن «الظروف السياسية، التي يتعيّن فيها على نتنياهو ونفتالي بينيت (زعيم حزب يمينا)، أن يُظهرا من الأكثر وطنية من منافسه، لا تساعد في تسهيل الوضع». ورأى أنه «في حال سقط قتلى خلال الأيام المقبلة، فسيضع ذلك صعوبة أمام أحزاب اليمين في كتلة التغيير (المعسكر المناوئ لنتنياهو)، للاستعانة بأحزاب عربية من أجل تشكيل ائتلاف».
في غضون ذلك، رأى المحلل العسكري في صحيفة «إسرائيل اليوم»، يوءاف ليمور، أن «قوى لديها مصالح عديدة تقف خلف الأحداث في القدس، رغم أنها تبدو كأحداث عفوية». وأوضح أن «حماس تهدف من وراء إثارة الغليان في القدس والضفة، لترسيخ تأثيرها عليها بعد إلغاء الانتخابات التشريعية، كما أنها تسعى إلى ترسيخ ردع جديد بينها وبين إسرائيل، ولا يتصل فقط بما يحدث في الجبهة الجنوبية، وإنما يطاول القدس أيضاً». ومن خلال ذلك، «حماس تقول لإسرائيل، عملياً، إن أي حدث في القدس يمكن أن يقود إلى رد فعل من القطاع».
إرساء هذه المعادلة برأيه، «لا يمكن أن تسمح به إسرائيل». ولذلك، من المرجّح أن تفعل الأخيرة ذلك «من خلال قنوات دبلوماسية»، إذ بدأت أمس بنقل رسائل إلى مصر والأردن ودول أخرى، «من أجل لجم حماس وتهدئة الحلبة الفلسطينية كلها».مع ذلك، شكّك ليمور في أن يكون «هذا كافياً»، ولا سيما أنه في ظل «ضعف أبو مازن (رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس)، لا يوجد في الميدان جهة لاجمة حقيقية بالإمكان التعاون معها من أجل تهدئة الوضع».
وكنتيجة للأحداث خلال الأيام الماضية، صدرت بحسب ليمور، «تعليمات لقوات الشرطة والجيش أمس، باحتواء الأحداث قدرَ الإمكان، ومحاولة الامتناع قدرَ الإمكان عن رد فعل شديد يقود إلى سقوط قتلى ورد فعل مضادّ».
في المحصّلة، دفع عناد الفلسطينيين وإصرارهم المستمر على مقاومة بطش العدو ومؤسساته كافة، إلى إخضاع المستويين الأمني والسياسي في إسرائيل، ففي آخر تقييم للوضع، طالب المسؤولون الأمنيون والسياسيون، اليوم، بتغيير موعد «مسيرة الأعلام» غداً، أو على الأقل «تغيير مسار المسيرة وتقليل أعداد المشاركين فيها». وحذّروا من أن «اقتحام اليهود للحرم القدسي غداً، قد يؤدي إلى توترات أمنية في الضفة الغربية وغزة». وهو ما تستعدّ الجماعات اليهودية المتطرفة للاعتراض عليه، حيث بدأ بالفعل المئات بالتوقيع على عريضة، للاعتراض على أي قرار ليس في مصلحة «مسيرة الأعلام». فهل يذهب الوضع إلى تصعيد أكبر؟ هذه القدس لا مفاجأة في ذلك!
الأخبار
إضافة تعليق جديد