الطفل «العبقري» لا تصنعه تجارة تتلاعب بخيال البشر عن الذكاء
في العام 2015، قدّم المخرج المبدع داوود السيّد فيلماً وُصِفَ على نطاق واسع بأنه متقدّم فنيّاً، خصوصاً مقارنة بحال الهبوط المسيطرة على الأفلام المصريّة حاضراً. إذ استطاع السيّد أن يحرّك نقاشاً فنيّاً متشعّباً عن حال السينما المصريّة والعربيّة، وموقع المخرج فيها أيضاً. ولامس الفيلم، ربما عن غير قصد، ظاهرة اخرى تتعلّق بذكاء البشر، خصوصاً الأطفال. جاء فيلم السيّد بعنوان «قدرات غير عادية»، وهو من بطولة خالد أبو النجا ونجلاء بدر والطفلة مريم تامر. يعرض الفيلم قصّة طبيب متخصص في الدماغ، يجري بحثاً عن أناس يمتلكون قدرات عقليّة متميّزة أو بالأحرى خارقة. لا يجد مبتغاه، فيلجأ إلى شاطئ الإسكندرية في إجازة يفترض أنها عابرة. ويحجز لنفسه غرفة صغيرة في فندق شديد التواضع. ويلتقي فيه أشخاص عاديّون، لكنه سرعان ما يتبيّن أن بعضهم يمتلك قدرات عقليّة غير عاديّة، على غرار تلك الطفلة البريئة التي تملك دماغاً يستطيع بموجاته أن يحرّك الأشياء من بُعد. وتفيد الطفلة الطبيب بأنها تخفي تلك القدرة العقلية غير العادية، لأنها تخشى أشياء كثيرة. وبعد مسار درامي متشابك، يخلص الفيلم إلى ما يشبه القول إن القدرات الخاصة ليست «خاصة» أبداً، بل كأنما لكل فرد قدراته المتميّزة.
ذكاء خاص؟ ولكن...
في المقابل، أظهرت دراسة أميركيّة في العام 2015، أن النتائج التي تحقّقها المدارس المخصّصة لذوي القدرات العقليّة «الخاصة»، بمعنى أنهم مرتفعو الذكاء مقارنة بما يملكه أقرانهم، تثبت وجود أفراد لديهم ذكاءً أشد مضاءً من غيرهم. ومن يبحث عن ذكاء «غير عادي»، ليس عليه أن يذهب بعينه إلى أبعد من عالِم الفيزياء الأعلى كعباً حاضراً: ستيفن هوكينغ. ويمثّل هوكينغ جمرة ذكاء متكوّمة فوق مقعد مدولب. ومنذ أصابه المرض العصبي الذي أفقده القدرة على تحريك عضلاته، وهو حاضراً لا يحرك سوى بعض عضلات عينيه، أنقذ الذكاء الوقّاد هوكينغ من الانهيار الذي توقّعه له الأطباء. فوفقاً للطب، يفترض أن هوكينغ تبدد وانهار منذ عقود طويلة، لكن عقله المتقّد ما زال ينتج علماً متقدّماً تستفيد منه البشرية كلها.
بالاختصار، هناك من يتمتعون بذكاء خاص. ولا تقتصر تلك الخلاصة على الزمن الحاضر، بل إنها ظاهرة طالما تحدثت بها ألسنة البشر.
وتصل تلك المعطيات إلى إثارة سؤال شديد الإشكاليّة: هل يمكن «اكتساب» ذكاء خارق، وتطوير العقل ليحوز «قدرات غير عاديّة»، خصوصاً في الطفولة؟ واستباقاً للنقاش، يجدر القول إن هناك من استغل الرغبة الحارقة عند الأسر في أن يمتلك طفلها ذكاءً آينشتاينيّاً وعقلاً بـ «قدرات خاصة». وأدخل بعض من يتقنون التلاعب بمعطيات العلم، الأشياء في التباس مقصود، ليروّجوا لقدرتهم على منح ذكاء إينتشتاين لمن يدفع!
وفي ظل التفاؤل بالعلم وقدراته، هناك من يجد في الأمر سانحة لاقتناص الفرصة، والتكسّب بقوة من الرغبة الجارفة لدى البشر في «اكتساب» الذكاء، بل مزيد منه باستمرار، خصوصاً للأطفال. ويزيد الأمر التباساً أن هناك نوعاً من المدارس ظهر في الآونة الأخيرة، يتخصّص في استقبال الأطفال الفائقي الذكاء. وأتاحت هذه الأمور فرصة لأصحاب «الشطارة» للتحايل على العقول باسم العلم، وادعاء القدرة على إعطاء الذكاء لمن يرغب، مع تركيز خاص على الأطفال.
بعيداً من الظلال الحربائيّة
ليس العالم العربي بمنأى عن تلك التجارة المتذاكية والمتلاعبة. فمن مصر إلى لبنان، مروراً بدول الخليج، تنتشر إعلانات يختلط فيها الحابل بالنابل عن هذا الشأن. في تلك التجارة، يجري خلط التقدّم العلمي مع مزاعم شتى، للحصول على أرباح كبرى. يوجب ذلك الوضع محاولة توضيح الأشياء بهدف إزالة بعض الالتباسات عن ظلال تبدو حربائيّة تماماً.
يصبّ آلاف العلماء جهوداً جبارة لإيجاد طرق لتعزيز ذكاء البشر والارتقاء به، بداية من محاولة منع الخرف وتدهور القدرات العقلية للشيوخ، ومروراً بالوقاية من مرض «آلزهايمر» Alzheimer بل الشفاء منه، ووصولاً إلى تعزيز توقّد الذكاء عن الأصحاء العاديّين، خصوصاً في مرحلة الطفولة. لا شك في أنّ التقدّم العلمي الهائل حصل في التعرّف إلى خصائص الدماغ، وعلاقته بالفكر والسلوك والعواطف والتصرّفات وغيرها.
لكن ذلك أمر مختلف تماماً عن ادعاء القدرة على تحويل الطفل إلى آينتشتاين!
وقبل سنوات، أثبتت تجربة عملية شهيرة أن راهبات في الغرب دأبن على إشغال أذهانهن باستمرار في عمليات فكريّة مركّبة لحين وصولهن إلى سن الشيخوخة. وبات معروفاً أن التحصيل العلمي المتقدّم والاستمرار في النشاط الذهني المتنوّع، يعطي وقاية من شيخوخة الدماغ وتدهور وظائفه.
لكن، تلك الأمور في وادٍ، والمزاعم الواردة أعلاه في وادٍ آخر.
وفي الآونة الأخيرة أيضاً، دعمت «هيئة الإذاعة البريطانية» («بي بي سي») دراسة واسعة شملت 11 ألف شخص لتقويم النتائج الفعلية لبرامج تدريب الدماغ. النتيجة؟ لا فارق فعلياً في قدرات الدماغ المعرفيّة بين من انخرطوا في التدريب ومن لم يمارسوه، وفق ما أوضح د.آدريان أوين الذي أشرف على تلك الدراسة. وأرغمت النتائج مجموعة من شركات صناعة برامج تدريب الدماغ على سحب مزاعمها عن قدرة برامجها على تحسين الذكاء المعرفي للدماغ، لتقتصرها على تنشيط الدماغ! الفارق هائل بين الأمرين. المعروف ان ممارسة نشاطات فكرية متنوّعة، على نحو ما يفترض أن تفعله المدارس، يساهم في تنشيط الدماغ.
وكذلك الحال بالنسبة إلى ممارسة نشاطات لاصفيّة عند الأطفال، كتعلّم الموسيقى والمسرح والرسم والغناء وغيرها. ويصعب أن يستثنى من قائمة التنشيط عناصر بيولوجيّة محضة، خصوصاً تلك التي تصح فيها الحكمة التقليدية التي تقول: «العقل السليم في الجسم السليم». ويعني ذلك أنّ الرياضة المدرسيّة لها دور كبير أيضاً في دعم نشاط الدماغ عند الأطفال والمراهقين، بل إن الرياضة تنشّط أدمغة البالغين وكبار السن أيضاً.
ولإعطاء فكرة أوضح عن صعوبة رفع مستوى الإدراك معرفيّاً في الدماغ، يكفي الإشارة الى أن وكالة «ناسا» تعاونت أخيراً مع عدد كبير من مراكز البحوث الأكاديمية المتقدّمة في بيولوجيا الأعصاب والسلوكيّات المتّصلة بها، لإنشاء ما اعتبر بأنه مركز أول للياقة الدماغ، وهو مخصّص لمن تجاوزوا الـ 35 سنة. واعتمد عند انطلاقته على 17 ألف دراسة علميّة موثّقة. وحتى الآن، لم تخرج نتائج ذلك المركز عن المعطيات التي عُرِضَت آنفاً!
ضد الخداع
ماذا عن الأطفال في البلدان المتقدمة التي تنفق أموالاً طائلة في بحوث تطوير الذكاء عند الأجيال الصاعدة؟
أولاً، يجدر التشديد على أنّ مدارس المتفوقين تثير نقاشات خلافية ساخنة في الغرب، إذ تضم في صفوفها الذين يسجلون مستويات متقدمة في اختبارات الذكاء وفي الامتحانات المدرسيّة. وبقول آخر، تتخصص مدارس المتفوقين في التعامل مع المتقدّمين في الذكاء فعليّاً، ولا تدّعي أنها هي التي تجعلهم أصحاب ذكاء خارق، كما يفعل «شُطار» تلك التجارة في عالم العرب!
ثانياً، يمكن إعطاء فكرة عن التجارب الصعبة في مجال رفع أداء الدماغ وذكائه بالنسبة للبحوث العلمية الفعلية، وليس أصحاب الادعاءات على التلفزة ولوحات الطرق.
هناك نموذج ظهر في الآونة الأخيرة، ربما يكون مفيداً التأمّل في معطياته، إذ أعلن «مركز بحوث الدماغ» في «جامعة سيدني» بأستراليا، عن تجربة قادها المختصان ريتشادر تشي وآلن سنايدر. وعرّض الباحثان مجموعة من المتطوعين إلى تيار كهربائي «قَصَفَ» أدمغتهم، مستهدفاً المنطقة الأمامية من الجزء الصدغي فيها.
وتبيّن أن معظم هؤلاء أظهروا ارتفاعاً في مستوى المؤشّرات المرتبطة بالذكاء، إذ استطاع هؤلاء المتطوّعون إيجاد حلول مبتكرة لمسائل صعبة وغير مألوفة لديهم، بنسبة فاقت ثلاثة أضعاف مجموعة مماثلة استخدمت للمقارنة، لكن لم يجر تعريضها لتلك الصدمة الكهربائية الخطيرة. ومن ناحية علميّة، يصعب التأمّل في تلك النتائج من دون وضعها في سياق مقاربة علميّة مبتكرة في القرن 21، تحمل اسم «التحفيز العميق للدماغ» Deep Brain Stimulation. ويتطلّب ذلك الأمر نقاشاً مستقلاً من أجل فهم السياقات الواقعيّة لمعطياته ونتائج بحوثه.
أحمد مغربي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد