السلطة والمقدس في أنظمة الحكم الإسلامية والمسيحية والوثنية
ينشغل عزيز العظمة في كتابه «الملكية الإسلامية» (نقله الى العربية عدنان حسن، دار قدمس - دمشق 2008) في البحث عن أنماط تعبيرات السلطة الإسلامية التي وجدت على مدى قرون من الزمن، مبيناً أنها لم تكن فريدة من نوعها، بل وحتى تأكيدات قداستها، لم تكن بالضرورة، من مهمات الخطاب الديني على وجه التحديد. ويدعم ذلك أن الخطاب السياسي الإسلامي وجماليات السلطة الممارسة تاريخياً في أنظمة الحكم الإسلامية تُصوران على أنهما متنوعان ومتمايزان وعلى درجة عالية من التغيرية. وعليه فإن تعبيرات السلطة الإسلامية تمتلك مجالاً للإنتاج والتداول أعرض بكثير من فئة علماء الدين الذين تنسب إليهم هذه التعبيرات على نحو عادي في الدراسات المعترف بها، إذ لم تكن آراء هؤلاء الأفراد في الغالب أساساً ولا معيارية.
ولأجل ذلك يبحث عزيز العظمة في تاريخ أنظمة الحكم الإسلامية، وبالأخص القرون العباسية منه، وفي شكل تفصيلي، إضافة إلى دراسة ثيمات بارزة من تجارب تاريخية أخرى مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالخلافة والمؤسسات الإسلامية الأخرى، أو كان لها أنواع أخرى من العلاقات بهذه المؤسسات أو يمكن مقارنتها بها، أي بالمؤسسات، بأنماط مختلفة. ويمتد الموضوع ليطاول نطاق الحضارة المتوسطية، الغرب آسيوية، أو الشرق أدنوية، في أواخر العصور القديمة والذي كان يمتلك تماسكاً خاصاً من حيث الاستمرارية، الزمانية والمكانية، وكونته تمثيلات ومؤسسات هلنستية ورومانية - بيزنطية، كانت نفسها كلياً بما يسمى المفاهيم الشرقية للملوكية والألوهية التي انتشرت في الشرق الأدنى القديم لدى الفرس والبابليين وعلى نحو أبعد، لدى المصريين.
وينطلق من اعتبار أن أنظمة الحكم الإسلامية الأولى كانت تنويعات معينة أو محددة على أنواع وأنماط خطابية وبصرية من العصور القديمة المتأخرة لتعبير السلطة الملكية والإمبراطورية، وأن الأنماط الكلاسيكية التي ارتبطت بالتاريخ الإسلامي إنما كانت إعادة صوغ مخصوصة وعلى درجة عالية من الإتقان، وذلك على مدى قرون عديدة، لتراثات مسكونية، وإمبراطورية وسياسية - خلاصية سابقة. كما يسلط الضوء أيضاً على أنظمة الحكم البوذية القروسطية بهدف المقارنة، ناظراً في التماثلات والاطرادات المتحصلة من طريق الانتشار والاستعارة، بوصفها وسيطية غير مباشرة، مع أن إدراج هذه الأنظمة يوحي بمستويات مثيرة للاهتمام لبعض العبارات المجازية من أجل تمثيل السلطة الإمبراطورية وعلاقتها بالألوهة، الأمر الذي يتطلب تفحص الشروط التاريخية والنصية الملموسة للخطابات الإسلامية والتعبيرات الأخرى للسلطة، بغية معرفة وتحليل التصورات السياسية الإسلامية، وحالة معرفة الشروط التاريخية والنظرية والخطابية لهذه التصورات.
ولا يقدم الكتاب دراسة مقارنة منهجية لتمثيلات السلطة الإمبراطورية في علاقتها بالمقدس في أنظمة الحكم الإسلامية والمسيحية والوثنية، مع أن منهج المقارنة كان يستخدم بهدف فهم الصفات المشتركة من منظور نشوئي، بداية بالألسنيات مع تشكيل نظام اللغات الهندو - أوروبية، لكن المؤلف يعالج عهوداً شتى من تاريخ الشرق الأدنى والتواريخ الأخرى، وخصوصاً موضوع أنظمة الحكم الإسلامي القروسطية، ويقدم بذلك عناصر مخزون من التراثات والمفاهيم العامة للملكية المقدسة التي ارتبطت، في التراثات الإسلامية، بتشكلات محددة تاريخياً وعبر استمرارية زمنية محددة، حيث تثبت المادة المدروسة وجود الاستمرارية في الأمد الطويل جداً عبر الحضارات عبر وسيلة «التعبير»، ممثلة بالرمز والشعار والموتيف والتشبيه، التي تتصور الجماعات التاريخية ذواتها بلغته بوصفها حضارات وثقافات وتواريخ. ويبدو أن الحدود الكاملة المزعومة والأنساب، تتجاوز تجاوزاً حاسماً، بالأخص تلك المصرح عنها بالإمضاءين «إسلامي» و «غربي»، ويظهر ذلك من خلال اقتفاء الخطوط المحددة للقرابة، والمخزونات المشتركة من الرموز والمجازات العائمة، ووقوعها عبر مسافات شاسعة من المكان والزمان.
ويتفحص المؤلف الشروط التاريخية والنصية الملموسة للخطابات الإسلامية والتعبيرات الأخرى للسلطة، من خلال معالجة القضايا البارزة منذ العصور القديمة وأواخر العصور القديمة المتأخرة في الشرق الأدنى التي قدمت مخزوناً من التصورات ومن الأنماط الملكية، التي منهجتها وأسلمتها أنظمة الحكم الإسلامية اللاحقة. ويدخل المادة البوذية ذات الصلة بالموضوع لتوضيح بعض المجالات ذات العمومية الواسعة. كما يتفحص في شكل موجز بدايات العهد الإسلامي الغامضة، التي ينظر إلى كونها عهداً انتقالياً، جرى خلاله تجريب بعض الأنماط القديمة المتأخرة. ويخلص إلى إن الأنماط الإسلامية الخاصة لتمثيل السلطة الإمبراطورية في علاقتها بالألوهة هي من نتاج العهد العباسي. وعليه يناقش المواقع الخطابية التي كتبت فيها السلطة، في ما يتعلق بنمطها، ومن جوانبها المفاهيمية والخطابية.
ويقرر عزيز العظمة أن القرن الأول للإسلام كان بمنزلة فترة انقطاع، كمرحلة انتقال من النظامين الهلنستي والساساني إلى نظام حكم مسكوني يقوم على أنقاض الاثنين. وتعزز هذا الإرث بأنواع جديدة من السلطة المركزية الإمبراطورية على النحو الأبرز، والتي تشكلت تحت راية الإسلام. وكانت فترة الانقطاع جرى فيها التجريب بعناصر النظام والشكل القديمين، حيث انكشف للوافدين العرب الجدد مخزون كبير من المعايير والمفاهيم والممارسات الإمبراطورية، وجُرد هذا المخزون ونظم وخلط مع العناصر الجديدة التي ظهرت في مسار التاريخ، تحت الراية الإسلامية. ويضاف إلى هذه العناصر، وإن بمقادير أصغر، مكونات من المعايير والمفاهيم العربية الجاهلية للملكية والكهانة، اللتين كانتا من قبل تتخللان بشدة، وفي واقع الأمر تؤلفان، من قبل الروحية الإمبراطورية المحيطة والمخزون الكبير من التواريخ والديانات السامية.
وتشكلت تحت الرعاية الإمبراطورية الإسلامية، من الكتلة المجردة للإرث القديم المتأخر، أنواع النظام السياسي وتمثيلات هذه الأنواع التي جمعت عناصر هذا الإرث في التقاليد الجديدة لنظام الحكم الإسلامي، والتي وصلت إلى زمننا الحديث عبر وسيلة الكتابة. وهناك مجموع معين من الممارسات الشعائرية والسياسية الأخرى، التي يمكن من خلالها قراءة ممارسة السلطة وتصوراتها المنضوية إليها. لكن هذه الأخيرة انتهت إلينا على نحو نصي، في تواريخ أخرى، وفي مواقع خطابية مختلفة عولجت فيها السلطة وتصورها وممارستها.
ويعتبر عزيز العظمة أن مفهوم الخلافة يظهر في الكتابات الإسلامية عن السياسة على نحو شبه ثابت بالاقتران مع مفهوم الاستخلاف المستمد من الآية القرآنية (البقرة:30) التي تنسب إلى الله تعالى قوله لملائكته إنه بخلق آدم يكون قد نصب خليفة في الأرض. لكن اقتران هذا الفعل الأساس للبشرية بإقامة سلطة شخص واحد على الجماعة هو الذي يسود في تفاسير هذه الآية. فالخليفة يمثل الله في تنفيذ مشيئته التي وصفها الفقهاء بأنها الأحكام وبأنه خليفة آدم، يتابع تأسيسه الأولي والنمطي البدئي للنظام، الذي هو أيضاً الأساس لنظام بشري يحقق الغرض الإلهي للخلق. وعليه تشدد التفاسير القرآنية على الأنسابيتين، الإلهية والدنيونية، للخلافة، كونها نيابة عن الله قُلد بها آدم، ويقلد بها لاحقاً أولئك الذين يحققون الهدف نفسه الذي أنيط به بعد موته، أي الحفاظ على نظام مرضٍ من خلال النبوة.
عمر كوش
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد