الحياة كقصة
أعترف بأنني حرمت من الاطلاع باكراً على إبداع الدكتور عبد السلام العجيلي، لأن شيخ «العشيرة اليسارية» الذي ظللني بعباءته عندما دخلت الى الجامعة عام 1969 وصف العجيلي، بأنه «برجوازي رجعي». ونظراً لأنني كنت فتى ريفياً فقيراً غراً عديم الثقافة، فقد بقيت مسلماً لسنوات بصحة ذلك الرأي المجحف، إلى أن قرأت عبارة للشاعر نزار قباني يصف فيها العجيلي بأنه أروع بدوي عرفته المدينة وأروع حضري عرفته البادية. فقررت أن أتعرف على الرجل من خلال إبداعه، وكان أن وقعت في حبه من أول قصة، لكنني بقيت دائماً أحمل في داخلي شعوراً متأصلاً بالذنب تجاهه.
عندما عملت في الصحافة الثقافية كان حلماً بالنسبة لي أن ألتقي بمؤلف «النهر سلطان» وأن أجري حواراً معه، لكنني رحت أرجئ ذلك لأنني سمعت بأن العجيلي يرفض المقابلات، خاصة مع الصحف المحلية. وعندما عزمتُ على السفر إلى الرقة من دون موعد راهنني أحد الزملاء بأنني سأفشل. علمتُ من الأصدقاء الرقاويين أن الدكتور العجيلي لا يدخن ولا يشرب وهو مدمن على شيء وحيد هو المشي، ففي عصر كل يوم يخرج من بيته باتجاه جسر الرقة القديم منتعلاً خفاً قماشياً، ويسير على الطريق القديم الظليل باتجاه المقص. ساعة في الذهاب ومثلها في الإياب. وفي طريق عودته يعرج على مكتبة (الخابور) ليستطلع المطبوعات الطازجة التي تصل المدينة في ذلك الوقت، فيشتري بعضاً منها وقد يقرأ مقالاً ما وهو يتمشى في طريق عودته إلى البيت.
اتصلت بالدكتور العجيلي عقب عودته من مشواره اليومي وعرفته بنفسي وأبلغته أنني قادم من دمشق وأقف على بعد عشرات الأمتار من بيته وأنني أتوقع منه أن يدعوني لشرب القهوة، أجابني: تفضل. فتفضلت.
كان العجيلي منقبضاً بعض الشيء، لأني فرضت نفسي عليه، لكنني ما أن حكيت له قصة شعوري بالذنب تجاهه وتصنيف شيخ «العشيرة اليسارية» له بأنه «برجوازي رجعي» حتى أطلق ضحكة طيبة، وراح يحكي لي كيف أن أحد جيرانه قال متباهياً باطلاعه الواسع على توجهاته: «أنا أعرف العجيلي جيداً.. إنه ارتوازي!»
سألت العجيلي عن الصراع بين البدوي والحضري فيه، هل حسم أم ثمة هدنة؟ أجابني بابتسامة: أنا لستُ بدوياً بالمطلق، كما أنني لست حضرياً بالمطلق. وإذا كانت الصحراء علمتني التأمل والمجاهرة بقول الحق والبداهة، إلا أن المدينة علمتني الكثير أيضاً.أحاول أن أكمل ما ينقصني من ناحية بناحية أخرى».
التقدمي
خلال الأيام التي أمضيتها في الرقة اكتشفت أن أثر العجيلي في الواقع هو أكثر تقدمية ممن يتهمونه بالرجعية، فقد أسهم في تغيير الكثير من العادات والتقاليد التي كانت تشكل عبئاً على الناس. تقضي العادة أن يقوم المعزون بتقديم الذبائح ونفقات الولائم التي تقام خلال فترة العزاء الذي يستمر لمدة أسبوع. وعندما فقد الدكتور العجيلي ابنه د.مهند في حادث سير مؤسف، جعل المأتم لمدة يومين فقط واكتفى باستقبال الناس بعد الساعة الرابعة عصراً لتقبل التعازي، ولم يقبل شيئاً من أحد بل اقتصر على تقديم القهوة المرة من دون ذبائح أو ولائم. وقد اقتدى أهل المدينة به لاحقاً.
صحيح أن الدكتور العجيلي دخل إلى محراب الكتابة من باب الشعر؛ وكتب في العديد من الأجناس الأدبية، لكنه سرعان ما اكتشف أن القصة هي صوته الأقوى وقد قال لي بوضوح: «القص عندي موهبة سابقة لغيرها تبنى عليها بقية الأنواع».
كان العجيلي قصاصاً في كل جوانب حياته، حتى في مهنته كطبيب اعتاد أن يصف المرض لمريضه البسيط من خلال حكاية قصيرة، والحكاية حاضرة حتى في شعره:
«غمّض عيونك عن عيون النرجس/ منك استحيْت لأنْ أقبّل مؤنسي/ نام الحبيب تذبلت وجناته / وعيونكنّ شواخص لا تنعس/ فأجبنني منهنّ باقة نرجس /يا مغرماً بهوى العيون النعّس / قبّل حبيبك ما استطعت فإنّما / من شأننا كتمان سرّ المجلس».
في عام 1936 نشر العجيلي أول محاولة له، وكانت قصة بدوية بعنوان «نومان» طبعت في مجلة «الرسالة» المصرية التي كان يصدرها أحمد حسن الزيات. ثم توالت كتاباته في الدوريات الشهيرة مثل مجلة «الحديث» في حلب و«المكشوف» فى بيروت، لكن العجيب هو أنه لم يكن يوقّع باسمه الصريح، وقد توصل أحد الدارسين إلى أن العجيلي قد استخدم اثنين وعشرين اسماً مستعاراً في الفترة ما بين 1936 و1970. سألت العجيلي عما إذا كان لهروبه من الشهرة علاقة بالخوف من النقد فأجابني: «لم يكن في الأمر خوف، ولا كنت قليل الثقة بنفسي، بل إن الثقة بالنفس كانت تملأني منذ الصغر. لم يكن يهمني أن أعرف كمعِّبر عما أعرضه. بل إني كنت أنفر من أن يشار إليَّ بالبنان، يضاف إلى هذا، أو أن سبب هذا، حياء مفرط كنت أتسم به منذ الصغر وانطوائية على نفسي ما زالت تلازمني حتى اليوم».
عاش صاحب «قلوب على الأسلاك» حياته كقصة مليئة بالتشويق والمنعطفات الحادة فعندما قامت ثورة 1936 في فلسطين، سافر إلى دمشق لأول مرة من دون علم أهله، كي يتطوَّع في صفوف الثوَّار، وعندما التقى بالمحامي الذي كان ينظّم إرسال المجاهدين، قال له: «يا بني ارجع إلى بلدك وتعلَّم. الثورة الفلسطينية بحاجة إلى سلاح وخرطوش أكثر من حاجتها إلى رجال».
اختار العجيلي أن يعالج المرضى الفقراء في مدينته الصغيرة على معالجة المرضى الأغنياء في العاصمة الكبيرة، وقد اعترفت له مدينته بهذا الفضل، فمع أنه طبيب عام إلاَ أن الإقبال على عيادته كان أكثر منه على عيادة أي طبيب مختص. كان بسطاء الناس يعتقدون أن وصول الواحد منهم لعيادة العجيلي يعني الشفاء التام مهما كان المرض!
كان حضور العجيلي في حياة الرقاويين اليومية يتجاوز الأدب والطب إلى ما يشبه الأسطورة الحية، إذ بات اسمه يذكر في الأغاني الشعبية كطبيب يستجار به حتى لمداواة العاشقين :«أنا دخيل الدكتور عبد السلام العجيلي»!
لعل أهم ما يميز إبداع صاحب «باسمة بين الدموع» هو أنه يستحوذ على اهتمام القارئ منذ الأسطر الأولى، وهو حتى في قصصه الغرائبية يملك قدرة هائلة على الإقناع بأن ما هو غير ممكن، قابل لأن يكون. والعجيب في الأمر هو أن سحره قد ينقلب عليه أحياناً. فقد روى لي أنه نشر في عام 1950 قصة بعنوان «ساعة الملازم» وجعل بعض أحداثها تقع في لندن التي لم يكن قد زارها بعد، فسمى شارعاً باسم إنكليزي، وعندما سافر إلى لندن، بعد سنوات راح يبحث عن ذلك الشارع في دليل الهاتف، وعندما لم يجده أصيب بنوع من الإحباط!
في دورة عام 1947 انتخب العجيلي عضواً في مجلس النواب، لكنه استقال من عضوية البرلمان عام 1948، وتطوع في جيش الإنقاذ؛ لكنه عاد من تلك التجربة خائباً ومحبطاً وفاقداً لإحدى عينيه.
تولى العجيلي في ستينيات القرن الماضي عدداً من المناصب الوزارية؛ الثقافة، الخارجية، الإعلام، لكن تقلبات السياسة لم تواته فزهد في المناصب والشهرة والأضواء ولاذ برقته مفضلا عدم الانتماء إلى أية هيئة أو رابطة أدبية مهما كان شأنها، وعندما اختير عام 1992 ليكون عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق، طلب إعفاءه من العضوية التي يستقتل الأدباء للحصول عليها.
المصور
خلال اللقاء الطويل الذي أجريته مع العجيلي، لفت انتباهي أنه كان أثناء الكلام يرسم بعض الخطوط، وقد فوجئت قبل أن أغادر أنه قد رسمني بدقة فيها كثير من البراعة، وقد فقدت ذلك الرسم مع الأسف، كما اكتشفت خلال اللقاء أن العجيلي مولع بالتصوير الضوئي، إذ اقتنى أول آلة تصوير في عام 1936 وفي أرشيفه آلاف الصور التي التقطها داخل سوريا وخارجها.
عاش العجيلي متناغماً مع نفسه، لم يهاجم الغرب يوماً لأن العاقل لا يأمل من عدوه سوى الضرر. لكنه لم يقصر في انتقاد نفسه ومجتمعه لقناعته بأن الميكروبات موجودة في كل مكان، لكن الضعيف وحده هو الذي يمرض.
كان العجيلي مثقفاً عضوياً منتمياً للناس، وعندما سألته عن مسؤولية المثقف أجابني: «أنا أحمل المثقف من المسؤولية بقدر وعيه. هناك مثقفون عرب سجنوا وعذبوا، وهناك مثقفون نجوا بجلودهم، وأنا لا ألوم هؤلاء. لكنني ألوم من مارسوا النقد وهم خارج البلاد آمنين على أنفسهم، وأنا لا أحمل لهؤلاء كبير التقدير، وأفضل لهم لو سكتوا!».
حسن م يوسف
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد