الحلقة الأولى ج 2 من كتاب"عشرة أعوام مع حافظ الأسـد" حافظ الأسد و دنيس روس ..الاجتماع العاصف في اللاذقية
في الرابع نيسان 1995، قدم دنيس روس إلى دمشق لعقد اجتماع مع الأسد حضره السفيران العلاف و المعلم. عُقد الاجتماع في اللاذقية، و استمر خمس ساعات متواصلة. بدأ روس الاجتماع بعبارة خفيفة، إذ قال مازحاً إن صديقاً له ممن يستبصرون المستقبل أرسل له رسالة بالفاكس تقول إنه يتوقع صفقة سلام سوريّة - إسرائيلية في عام 1995.
وأشار روس إلى أن ذلك الصديق لا يمكن أن يخطئ، و أخبرنا كيف أنه تنبأ بانتصارين متشابهين لفريقي سان فرانسيسكو لكرة القدم و السلة في الماضي . ابتسم الأسد، بدا واضحاً أنه وجد القصة مسلية، فهي قصة إن دلت على شيء فهي تدل على مخيلة خصبة. قال الأسد: " لقد اعتمد قادة كثيرون في الماضي على أقوال المتنبئين و العرافين، و منهم الرئيس الأمريكي رونالد ريغان. لكننا لا نعتمد على مثل هذه التنبؤات، لأن الإسلام يستنكرها، و لأن المتنبئين يبنون تنبؤاتهم على الرؤيا، و ليس على الوقائع، و من الممكن أن يؤدي هذا إلى وهم كبير ".
فوجئ روس بعدم تجاوب الأسد مع مزاحه الذي قصد به الجدّ، و تجاهل ملاحظته الأولى، و استمر في حديثه: " إنني أحمل معي رسالة من الرئيس كلينتون، الذي يهديك تحياته، و يقول إن الوقت قد حان الآن لتجاوز الاختلافات و دخول مرحلة التفاصيل الأمنية للوصرل إلى السلام الحقيقي " . كان الرئيس كلينتون في المحصلة يطلب من الرئيس الأسد مزيداً من المساعدة ليكتسب القوة في مراجهة الإسرائيليين.
تابع روس كلامه: "لا تزال حكومة الولايات المتحدة ملتزمة بما بدأه الوزير السابق بيكر، وهو الامتناع عن عقد صفقات سرية مع طرف على حساب الطرف الآخر. حين نقول للإسرائيلين شيئاً، فإننا نقوله لسورية أيضاً، والعكس صحيح".
و هذا يعني أن الأمريكيين قد بلّغوا رئيس الوزراء رابين كل النقاط السورية، و اعترض هو على عدة عبارات في جواب الرئيس الأسد على الوديعة. و قال رابين إنه ألزم نفسه، بواسطة الرئيس كلينتون في جنيڤ في كانون الثاني/ يناير عام 1994، بحدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 . و قد أكد الأمريكيون هذا خطياً للرئيس الأسد، و بذلك جعلوا منه موقفاً رسمياً أمريكياً فرضه الأمر الواقع.
و ما قاله لنا روس في اللاذقية في نيسان أبريل 1995 هو: " لقد عدتُ تواً من إسرائيل، و يمكنني أن أقول لكم إن المهمّ هو أن الولايات المتحدة تفهم وجوب تلبية مطالبكم. و لهذا السبب، فإن معنى الانسحاب الكامل هو إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، و سيكون ذلك جزءأ من صفقة متكاملة يجب تلبية متطلبات إسرائيل فيها أيضاً. ولن يكتسب هذا أي معنى إلا إذا توصلتم إلى اتفاق على كل شيء. أما اذا لم تتوصلوا إلى اتفاق على كل شيء، فلا معنى له. و مهما يكن الآمر هذ ا" أي اقتراح رابين" في جيبنا، و ليس في جيبكم ". و أضاف أنه مع أخذ كل ما ذُكر في الحسبان، أي ما السبب الذي يجعل سورية قلقة حول شروط الانسحاب المذكورة في وديعة رابين؟ استعد الرئيس الأسد ليشرح - للمرة المليون خلال عامين - الفرق في الحدود بين عامي 1923 و 1967، مشدداً على اًن وديعة رابين لم تذكر صراحة حدود 1967، بل تحدثت عن الإنسحاب فقط .
إثر ذلك، اقترح روس أن يقوم الوزير الشرع بزيارة واشنطن في الأسبوع الثالث من نيسان/ أبريل لإجراء محادثات مع وزير الخارجية الأمريكي قبل زيارة رابين الوشيكة للولايات المتحدة. و أضاف أن زيارة الوزير ستحمل الرسالة الصحيحة إلى الشعبين الأمريكي و الإسرائيلي بأن سورية " لا تزال ملتزمة بالسلام على الرغم من الاضطرابات في فلسطين، و على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية ". و تجب الإشارة إلى أن الأمريكيين كانوا حريصين دائماً على إحضار المسؤولين السوريين إلى الولايات المتحدة، بصرف النظر عما إذا كان هناك شيء ذو أهمية سيجري بحثه أم لا.
من جانبنا، كنا نقول دائماً إننا لا نسعى وراء فرصة لأخذ الصور في البيت الأبيض، و لن نقوم بالرحلة ما لم يتوفر شيء ملموس للبحث. و من الواجب أن نتذكر أنه في عام 1992، طرح بيكر فكرة دعوة الرئيس الأسد نفسه إلى الولايات المتحدة، مع الملك فهد بن عبد العزيز، و ملك الأردن حسين ، و إسحاق رابين. لقد كان يعرف جيداً أن الفرصة ضئيلة، إن لم تكن معدومة، ما دام الجولان السوري محتلاً، لكن، بحسب قول روس: " اعتقد بيكر أن الأمر يستحق المحاولة ". و حين سُئل روس عن امكان قيام الأسد بالزيارة، أجاب: " الأسد هو المفتاح. إذا تقبل الأسد الأمر، فالآخرون سيحذون حذوه لكن هذا يناقض كل ما يؤمن الأسد به، لأنه يعني منح الإسرائيليين تنازلاً كبيراً مقابل لا شيء. و هذا يعني أن عليه أن يقابل زعيماً إسرائيلياً من دون أن يكون قد استرجع أرضه، و هذا يعني أيضاً إعطاء الإسرائيليين الرموز التي يتوقون إليها من غير وجود تأكيدات أنه ( أي الأسد ) سيحصل على الشيء الأساسي الذي يريده" . و نحن في دمشق، كنا نعرف ذلك الاقتراح معرفة تامة، و نتساءل: ما السبب في أن دنيس روس يحاول طرحه مرة أخرى، مع أنه يعلم علماً تاماً أين يقف الرئيس في مسألة الإعطاء من دون الحصول على " أي شيء في المقابل؟ ". 1
الاجتماع العاصف في اللاذقية 2 .
قال دينس روس يكاد الوقت يدركنا، يا سيدي الرئيس. فالانتخابات لدينا وشيكة، و ستستنفد كل اهتمامنا و طاقتنا، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في إسرائيل أيضاً. نحن بحاجة إلى التوصل إلى صفقة سلام هذا العام، أي 1995. و أضاف أن الأزمة تتضمن " عنصراً نفسياً "، إذ يحتاج الفرقاء المعنيون جميعاً إلى أن يشعروا بأنهم يحققون تقدماً، أي تقدم، من أجل الحفاظ على الزخم. و مرة أخرى، لم يجد الأسد هذا الكلام مسلياً، بل شعر أن روس يحاول أن يحشره كي يقدم مزيداً من التنازلات، في حين أنه تجاوز الحدود التي خطها لنفسه . حين قبل باقتراح الأشهر الثمانية عشر من أجل إعطاء فرصة للسلام. كان مصمّماً على ألا يتزحزح عن موقفه ما لم ير شيئا ملموساً من الإسرائيليين: " ما قلناه، يا سيد روس، هو الانسحاب الكامل و السلام الكامل، و يعرف العالم بأسره الآن الشيء الذي أبدت سورية استعدادها لتقديمه. لقد تحدّث رابين إلى الأمريكيين عن الانسحاب الكامل. قال لهم إنه يقبل الانسحاب الكامل، و طلب أن ينقل الدبلوماسيون الأمريكيون رسالته إلينا. و لا يعرف موقف إسرائيل سوى قلة من السوريين و الأمريكيين و الإسرائيليين، في حين يعرف العالم بأجمعه أين نقف، و ما نحن مستعدون للقيام به من أجل السلام؟ ".
كان الرئيس الأسد يحاول أن يقول إن الوقت قد حان ليقرّ الإسرائيليون علناً بضرورة الانسحاب من الجولان، كاملاً، بناء على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، و ليهيئوا الرأي العام العالمي و الإسرائيلي لهذا الانسحاب. و هذا لا يمكن أن يحدث بين عشية و ضحاها. و إذا كان الإسرائيليون مهتمين حقاً بالانسحاب الكامل، عليهم أن يقولوا هذا بلا مواربة، و بصوت عال و واضح، من دون اعتبار النظرة الشارع الإسرائيلي إلى هذا الموقف. و بحسب اعتقاد الرئيس، كان اهتمام رابين لا يزال منصبّاً على عملية سلام أكثر من معاهدة سلام. كيف يمكن لنا أن نصدق ما يقوله روس لنا أن حين يصف بنفسه في مذكّراته ردّ فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي على إجابة سورية بهذه الطريقة: " انفجر رابين، قائلاً إن الانسحاب الكامل في نظره كان يعني دائماً الانسحاب إلى الحدود الدولية، و ليس إلى خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967" .
ثم أضاف الأسد إن الأمريكيين كانوا قد اقترحوا الحفاظ على سرية وديعة رابين " قبلنا ذلك، قائلين إن تسرّبها سيؤذي عملية السلام، و من تم سيؤذي مصالح سورية القومية" . و تابع يقول: "و لكن حان الوقت الآن الذي ينبغي لإسرائيل أن تصرّح فيه علناً بضرورة الانسحاب من الجولان. إن السلام هو من أهم دواعي سرورنا، و لا نريده أن يبقى سرياً " .
إن وديعة رابين تحمل الرسائل نفسها التي كانت تنتقل جيئة و ذهاباً بين سورية و إسرائيل من خلال روس و كريستوفر و كلينتون نفسه: " ما الذي ستضيفه إلى العملية زيارة الوزير الشرع إلى واشنطن؟ هلّ سيسمع السيد كريستوفر من الشرع أكثر مما سمعه مني في دمشق؟ إن مهمته هناك ليست مماثلة لمهمة رابين في واشنطن، إنّ لرابين مصالح في الولايات المتحدة، و حين يقصدها يكون متوجهاً إلى وطنه الثاني. و لكي نكون صريحين، نقول إن زيارة كهذه لن تضيف شيئاً سوى إعطاء مؤشرات مضللة، و هي أننا على وشك إنجاز إتفاقية سلام ، و هذا ليس هو الواقع" . و أضاف أنه في ما يتعلق بالتفاصيل العسكرية " حين يصبح الوقت مناسباً، يجب أن يقوم العسكريون بوضع هذه التفاصيل، و ليس من المناسب لي أن أتفاوض حولها " .
مرة أخرى، يشهد هذا القول على احترام الأسد للمؤسسات و للرجال العسكريين الذين أحاطوا به أثناء مسيرته الطويلة، و مع أن الرئيس الأسد كان في السابق آمراً لسلاح الطيران و وزيراً للدفاع، كما أنه، بحكم الدستور، كان القائد العام للجيش السوري منذ عام 1970، فقد كان يشعر أن رئيس الأركان حكمت الشهابي هو من يحدد التفاصيل العسكرية و الفنية.
" لو كنت أنا الذي سيفاوض في التفاصيل، لكان معنى هذا إما النجاح الفوري أو الإخفاق الفوري، و لذلك يحتاج هذا إلى الوقت، و يجب أن يشترك الضباط أنفسهم في المحادثات و تفاصيلها ". و أضاف أن عمل الضباط من كلا الجانبين سيأتي في مرحلة لاحقة، " بعد أن نكون قد اتفقنا على كل المسائل الفرضية و السياسية ". و قال مذكراً روس بأن سورية ترفض محطات الإنذار المبكر على جبل الشيخ جملة و تفصيلاً : "لقد أطلقت إسرائيل أخيراً قمراً صناعياً تجسسياً يمكّنها من تسجيل حتى معلومات لوحات السيارات السورية. و بوجود هذه المعدات المتطورة تحت تصرفها، ما السبب في أنها ما زالت تصر على محطات أرضية للإنذار المبكر ؟ "، فيما أن سورية تعرض على إسرائيل السلام، ليس الإسرائيليون بحاجة إلى ترتيبات أمنية واسعة، كما تطلب الولايات المتحدة.
ثم أضاف بحزم: " أنت دائماً تقول لي إن الوقت يدركنا. نحن، يا سيد روس، لسنا في عجلة من أمرنا إذا كانت العجلة يعني التخلي عن أي من حقوقنا فقط من أجل أن نقول للعالم: " لقد حققنا اتفاقية السلام " . و قد تكونون أنتم في عجلة، لكن الإسرائيليين ليسوا مستعجلين. فهم الذين يقومون بإضاعة الوقت منذ ذهبنا إلى مدريد، و لسنا نحن.إننا لا نحاول أن نكسب الوقت أو نضيّع الوقت. نحن نبقى، كما كنا دائماً، ملتزمين بسلام عادل و شامل. لقد قمنا بالكثير حين يتعلق الأمر بإجراءات بناء الثقة، أكثر مما كان متوقعاً منا. لقد خطونا الخطوة الإضافية يا سيد روس .2
1- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990 - 2000 / ص 178.
2-من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990-2000 / ص 181
إضافة تعليق جديد