الإرهاب وأوروبا.. الخافي والمكشوف !
آلاف الأوروبيون يشاركون في مسيرة “أنا لست خائفاً” تضامناً مع ضحايا الاعتداءات”.. هذا هو العنوان الذي تكرر قبل أيام على الشاشات والمواقع والجرائد في إسبانيا والعالم. لكن شعار “أنا لست خائفاً” يثبت ما يريد أصحابه نفيه، الخوف الساكن في القلوب من المستقبل الغامض. ليست هذه هي المسيرة الأولى ضد الإرهاب في أوروبا. والأرجح أنها لن تكون الأخيرة. والسبب هو أن الأوروبيين لا يعرفون حقيقةً من يستهدفهم. وهم لذلك لن يتمكنوا من إيقافه. يظن الناس أن متطرفين من أصل عربي مرتبطين بتنظيم داعش هم من يمارس الإرهاب. لكنهم لا يتساءلون عن المخططين والممولين الذين يقبعون خارج الصورة.
لا تكاد العمليات الإرهابية تتوقف في أوروبا منذ أن تصاعدت وتيرتها قبل سنوات قليلة. وبعد استهداف مدنيين في توركو بفنلندا وبرشلونة في أسبانيا في مشاهد سوريالية قبل أيام من الآن، جُرح جنديان وقُتل المهاجم في بروكسل لاحقاً، بينما وقع حادث مماثل في لندن أمام قصر بركينغام. وكالعادة تبنّى تنظيم داعش العمليات بعد وقت قصير. بينما تمت تصفية العناصر التي يقال إنها شاركت في العمليات، بعد أن أصبحت تصفية القتلة عادة في الفترة الماضية.
بعد العملية الإرهابية في إسبانيا، غرّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على موقع التواصل الاجتماعي تويتر يقول: “أدرسوا ما فعله الجنرال الأمريكى بيرشينغ بالإرهابيين بعد القبض عليهم، اختفى بعدها الإرهاب الإسلامي المتطرف لمدة 35 عاماً”. كان ترامب يشير إلى ضرورة التعلم من التاريخ حيث أنهى الجنرال جون بيرشينغ في أوائل القرن العشرين على مقاومة مسلمين في الفيلبين بقتلهم برصاص مغمور في دماء الخنازير. وقد رفض المؤرخون هذه الرواية واعتبروها زائفة.
ترامب هو نفسه الذي أخبرنا قبل نحو سنة بكلام صريح أن “داعش” صنعها الرئيس السابق باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون اللذان كانا يعملان بشكل واضح لمصلحة “إسرائيل”. لكن يبدو أن إملاءات المنصب جعلت ذاكرته قصيرة.
ليس الإرهاب وليد المرحلة، بل إنه ممارسة قديمة. وهو ليس ممارسة عشوائية يقوم بها أفراد يائسون، بل إنه عمل مصنوع ومنظّم يتوخى تحقيق أهداف معينة. وهؤلاء الأفراد الذين يظهرون في الصورة وهم ينفذون أعمال قتل ودهس أدوات. يتم تصوير الإرهاب على أنه ردة فعل يطلقها متطرفون دينيون أو أنه نتاج محلي سببه الفقر والبطالة.. لكن هذا بعيد عن الحقيقة، فأكثر القتلة لا علاقة لهم بالدين وكثير منهم مدمنون وأصحاب سوابق. تماماً كما أن كثير منهم ميسورين وأصحاب شهادات عليا. هؤلاء الأشخاص هم “المكنسة التي تستعملها “إسرائيل” لإبادة المسيحيين وأوروبا”، كما قال أحد الحاخامات مكرراً بذلك نبوءة توراتية. يصبح الإرهاب بشكل حاسم فعل استخباري له أهدافه المحددة ضمن استراتيجيات دولية معقدة.
تتم صناعة الإرهاب تقليدياً من أجل تبرير ممارسات استعمارية أو احتلالية تشرْعِن التدخّل في شؤون دول معينة لنهب ثرواتها أو إسقاط أنظمتها أو حتى تخريبها وتدميرها. لكن الإرهاب اليوم يضع لنفسه هدفاً أكبر. وهذا الهدف هو تهشيم العالم تمهيداً لإعادة صياغته كما يأملون.
أوروبا نفسها كما الولايات المتحدة ليست بعيدة عن هذا الهدف. فهي مثلها واقعة تحت القبضة الصهيونية ويمكن فعل أي شيء للعبث بأمنها وتخريبها. تريد إسرائيل أن تصبح بشكل واضح وعلني القوة الأولى في العالم، وهذا يحتاج الى إزاحة المنافسين بكل الوسائل. لم يعد ذلك خافياً وقد صرح به بن غوريون لمجلة لوك Look عام 1962م عندما تحدث عن أفضلية العنصر اليهودي وتوقع أن تكون إسرائيل يوم ما على رأس الهرم العالمي.
ورغم أن تخريب العالم كله من أجل أن تتسيّد “إسرائيل” المشهد بشكل علني يبدو هدفاً خفياً للصهيوينة العالمية، إلا أن الإرهاب الذي ينفذه غالباً أوروبيون منحدرون من أصول عربية يخدم هذا الهدف. فهو لا يعني شيئاً غير تكبير حالة العداء الداخلي القائم فعلياً ضد الجاليات العربية والمسلمة المقيمة والتي يحمل أفرادها في الغالب جنسية ذلك البلد الأوروبي الذي يعيشون فيه. وهذا لا يمكن إلا أن يكون تمهيداً لظهور ردّات فعل طبيعية أو مصطنعة ضد من يظن الناس أنهم مصدر الإرهاب. وبالفعل فقد رأينا بعض الحالات من هذا النوع في ستوكهولم ولندن.. وهي حالات عادة ما يقال عن منفذها إنه يعاني اضطرابات نفسية!
لا أحد يتهم المخابرات الأمريكية أو الصهيونية بصناعة الإرهاب رغم أن التهم تُوجه دائماً لتنظيم “داعش”، ورغم أن “إسرائيل” نفسها لم تُخف استقبال إرهابيين تابعين لتنظيمات مثل “جبهة النصرة” لتقع معالجتهم هناك، ولم تخف أيضاً زيارة رئيس الوزراء نتانياهو لهم!
كان الإرهاب في الماضي يستهدف دولاً كما أكّد الكاتب الأمريكي جيمس بامفورد حين كشف في كتاب له وثيقة أمريكية إسمها “وثيقة نورث وودز” وضعت لافتعال أعمال إرهابية وإلصاقها بكوبا لتبرير غزوها. لم تتغير الأمور كثيراً منذ ذلك الوقت. والجديد هو اختراق المسلمين وتجنيد مرتزقة وغوغائيين وتحويلهم إلى “ربوتات” تعمل بلا وعي وتفعل ما تؤمر، من أجل إثارة الفوضى والحروب الداخلية دون حاجة إلى غزو أو تدخل مباشر هذه المرة.
يتجوّل الإرهاب في أوروبا، ليس باعتباره ردّة فعل تقوم بها تنظيمات إرهابية كما يروج الإعلام، بل من أجل إثارة الغرائز وتأجيج الكره بين المسيحيين والمسلمين. تُنَفّذ العملية الإرهابية ويُقتَل من يقال لنا إنه القاتل لتضييع الحقيقة وطمس الأدلة ثم يخرج المسؤولون على الشاشات للحديث عن “الإرهاب الإسلامي” المزعوم، لتوجيه الرأي العام في سيناريويات يتكرر في كل مرّة.
تنكشف كل تلك المحاولات التسطيحية لتفسير مشكلة الإرهاب، وتتهاوى تلك التبريرات التي تتحدث عن شُحّ موارد الثروة، وضرورة إعادة هيكلة المنظومة المالية منذ بداية الثمانينات بسبب تشجيع الاستهلاك مقابل القروض من أجل الإبقاء على ارتفاع سعر الدولار، وتأثير ذلك في ظهور الإرهاب. وتتراجع قصص وجود فكر ديني متطرف يستبيح دماء الناس.
ذلك كله ليس إلا اجتزاء للمشكلة. فالأرض لا تعاني شح الموارد، ومن يعاني الشح هو الشركات العابرة للقارات التي لا يشبعها شيء، والنظام الرأسمالي الذي صمّم للاستجابة لجشع طبقة معينة. والفكر المتطرف كان مطوياً في الكتب بعد أن أسقطه فلاسفة ومفكّرون مسلمون عبر التاريخ قبل إعادته إلى الحياة.. يعرف المطّلعون أن المذهب الوهّابي صُنع في أقبية المخابرات منذ القرن الثامن عشر، تماماً كما صُنعت مذاهب وتيارات كثيرة أخرى لغايات أخرى. ولا شك أن الأهداف من صناعة ذلك المذهب كانت كثيرة. وأحد تلك الأهداف هو ما نراه منذ عقود، أي منذ تأسيس تنظيم القاعدة في أفغانسان ثم تنظيم “داعش” في العراق.
مشكلة الإرهاب أعمق من المبررات التي يكرّرها الإعلام كل مرة، المشكلة هناك في العقل الاستراتيجي الصهيوني الذي يريد إعادة تشكيل العالم.
قاسم شعيب - الميادين
إضافة تعليق جديد