اقتفاء أثر صاحب الخبز الحافي في طنجة
طنجة: جلال الحكماوي
وصلت بنا السيارة من الرباط، بعد أن نهبت الطريق نهبا إلى أصيلة. مدينة صغيرة كأنها لوحة مائية نهضت من بياض الجير وزرقة البحر. هذه المدينة أحبها شكري وأخفى فيها بعضا من أسراره العصية على أشباه نقاد تائهين في غابة المعنى. ولجت إلى مطعم غارسيا الشهير، الذي كان يفضل شكري الأكل والشرب فيه مع خلانه من عرب وأجانب، خلال الصيف. كان يحب أكل السمك المشوي وشرب النبيذ، متحدثا عن المجنون لبرم، جونيه، فولكنر، محمد زفزاف أو الصعاليك الذين يغزون المكان ولا تلتقطهم كاميرات وأقلام الكتاب المتخمين بثقافة البروتوكول. وبسرعة تشتم اختفاء روح شكري غير نادمة من هذا المكان. ضجيج الصحون والملاعق. حفدة دون كيخوته يلتهمون كل ما تقع عليه أيديهم. أعيان محليون يتلذذون بسلطتهم وهم يجلسون الى أحسن الموائد المطلة على الشارع. مرحبا شكري...
كان صاحب المطعم غارسيا الإسباني يقدر الكاتب الكبير، وكان المطعم خلية نحل تحتفي بالعابرين من مختلف الأجناس. بعد رحيل شكري صار كغيره من المطاعم الموجودة وسط المدينة، قبلة للسياح، الذين يحتلونه مدججين بالعملة الصعبة وأغلبهم من الإسبان. كما ابتلي غارسيا بعد ان هرم، بنادل جلف ضخم الجثة، يعتقد أنه صاحب المطعم الحقيقي، إذ يحتقر الزبائن المغاربة، مقبّلا قدمي كل أشقر يرطن بلغة لا يفهمها أو موظف سام سبقته المكالمات الهاتفية من الرباط. تخيلت شكري حالا، وهو يؤدب هذا النادل الأرعن، في هذا المطعم البائس الذي باع بثمن بخس، ذكرى أحد عمالقة الأدب المغربي الحديث. هاتفت صديقي يحيى الذي كان من الأصدقاء القلائل الذين رافقوا شكري في آخر أيامه، بعد أن عصف بجسده إعصار المرض الخبيث، وأعطيته موعدا في فندق «الخيمة»، حيث قضيت ليلتي محاربا الحشرات الصغيرة، لطخات الشراشف والتلفاز المعطل الذي يحلف لك عمال الفندق أنه يشتغل. رحم الله شكري الذي كان يضيء هذا المكان، بابتسامته الريفية الملونة كفراشة ربيعية. وبمجرد ما رآني يحيى ابتسم قائلا: «أرأيت ماذا فعلت سنوات قليلة بشكري يا عزيزي». وافقته الرأي. ولعنا معا فساد الامكنة واهلها..
لماذا فتنت أصيلة كاتبا عالميا كان لا يخرج من طنجة إلا لماما؟ سؤال محير، بالفعل. قد نجد جوابا عنه في الخمسينات لما عرشت جذور الصداقات الأولى على جدران أصيلة الناصعة. جذور لم تبعثرها رياح النسيان الآتية من الماضي، بل تمسكت بالمعلم الأول: الأستاذ حسن العشاب الذي كانت له أياد بيضاء على محمد التمسماني الريفي، الاسم الحقيقي لمحمد شكري، حيث كان هو أول من أخذ بيده طفلا، معلما إياه القراءة والكتابة. كان الأستاذ العشاب الأصيلي مشهورا ببلاغته وخطابته في «مقهى موح»، الواقع أمام الميناء، المعروف في طنجة، الذي كان أغلب رواده من البحارة الذين كان يسحرهم الشاب الوطني ببراعة شرحه لخطب الزعيم علال الفاسي في منفاه، ولأحداث المقاومة التي كانت مشتعلة في مختلف المدن المغربية بقصد تحرير البلاد من نير الاستعمار. كان هذا الجو الملحمي الخبز اليومي للعشاب والبحارة الذين كانوا يتأثرون أشد التأثر بما يقوله لهم هذا الفتى الجسور. وأثناء تعليقاته الحماسية كان العشاب يلحظ بين الحضور طفلا لا يتجاوز عمره 11 سنة. كان مداوما على حلقاته ومأخوذا بالأسلوب الممتع الذي يحلل به ما يشغل الدنيا من أخبار. كان الصبي يتقرب للمعلم الأول راغبا في مجالسته والتتلمذ على يديه. هكذا تعرف العشاب على محمد الريفي التمسماني الذي كان يسكن في طنجة وحيدا، هاربا من مدينة تطوان، حيث كانت أسرته تعاني الويلات من أب دكتاتور تقاعد من جيش فرانكو لينكل بزوجته وفلذات كبده، مما دفع بشكري إلى الهرب إلى طنجة، ممتهنا مهنا صغيرة كماسح أحذية أو متاجر في السجائر الأميركية المهربة، التي كان يقتينها من المنطقة الدولية، ليعيد بيعها بالتقسيط حتى يجني منها بعض الأرباح تمكنه من حياة هي شبه حياة فقط.
أخذ العشاب يحفظ الصبي شكري بعض السور القرآنية والأحاديث الدينية والأمثال الشعرية، بدءا من الأبجدية ثم الجمل المركبة. وكان المعلم معجبا بسرعة بديهة الصبي، وقدرته الهائلة على استيعاب الدروس، كما كان يمتحنه في قدرته الإنشائية في تحرير مواضيع يقترحها من الصحف، ويطلب منه قراءتها وتلخيص بعض فقراتها. فترى الصغير يقرأ اليافطات المعلقة على واجهات المتاجر ومعلمه يصحح ما فسد من لغته. ثم توطدت أواصر هذه الصداقة، فأخذ العشاب يدعو تلميذه النجيب إلى قضاء عطلة الصيف في بيت آل العشاب، الذين كانوا معروفين بورعهم وعلمهم في أصيلة.
في منتصف الخمسينات، زف العشاب لمحمد شكري بشرى تعيين أحد أصدقائه مديرا في «مدرسة الحي الجديد» الابتدائية بمدينة العرائش واسمه محمد الشنتوف، الذي وافق على قبول شكري في مدرسته. وهكذا اجتاز الفتى بنجاح اختبار الدخول والتحق مباشرة بالقسم الخامس ثم انتقل بامتياز في نهاية السنة إلى الثانوي وتدرج في التعلم حتى التحق بمدرسة المعلمين ليتخرج منها مدرسا لمدة عشرين سنة قبل أن يتفرغ للكتابة. هذا سر أصيلة الضارب في كينونة شكري المتمردة. وكانت لسيرة التعلم هذه بالغ الأثر على خياله أيضا، حيث كان مبهورا بأستاذ الرياضيات عبد العزيز شكري، ومن ثم جاءته فكرة تغيير اسمه لاحقا من محمد التمسماني الريفي إلى محمد شكري. اسم صار في ما بعد أشهر من نار على علم.
صارت خيوط سيرة الصبا تتعالق بين طنجة وأصيلة، حتى جعلت منهما حبل سرة حقيقيا يربطه ببهاء الصداقات التي اينعت وأزهرت مع مرور الوقت. فكانت أصيلة يدا ممدودة له. يد متعددة من أسمائها: المجانين لبرم، علال، عيشة، البقالي، والرسام المليحي، والمتصوف خليل غريب والشاعر المهدي أخريف والناقد الصادق يحيى بن الوليد. ولما كشف هذا الأخير سر العشاب في حوار صحافي، عاتبه شكري الذي كان يعزه كثيرا بقوله: يحيى، هذا هو الخطأ الأول والأخير الذي أسمح لك به»، لأن كشف المستور يخدش تماما أسطورة الكاتب الأمي الذي التحق بنور الكلمات في العشرين من عمره. وامتدت ذاكرة البحر لتمحو بياض العوالم السرية التي برع شكري في إبداعها. تركت أصيلة ورائي غير نادم، كطلل هجره العشاق للنوارس التائهة فوق رؤوس سياح استباحوا أرض الشمس ببطائق ائتمانهم الهمجية، مقتفيا آثار شكري في مدينة أسطورية تغنى بها رحالة العالم.
«أطنجة يا العالية»، تقول أغنية الحسين السلاوي الشهيرة. أغنية شد عصبها خيال شكري إلى هذه المدينة التي تزوجها شكري دون غيرها من النساء. شكري الأعزب الابدي، وطنجة التي لم ترض سوى بمحمد شكري عشيقا أوحد. أسطر شكري طيلة إقامته في طنجة أمكنتها، وبادلته هذه الأمكنة حبا بحب. السوق الداخل، نيكرسكو، مقهى فرنسا، دورادور، ريتز، كلها أمكنة عبقت بصوته وحركاته وتمرده وجلده الذي ظل وفيا له حتى وهو يصارع تنين المرض المرعب. كان شكري يقول مازحا، وهو في قمة علاجه الكيميائي: «أترون لم يجرؤ المرض الخبيث على الوصول إلى دماغي، لأنه يدرك جيدا أنني من عباقرة هذا الزمان». أين عظمة كاتب سارت بذكره ركبان العالمية؟ أمكنة مقفرة الرمزية بعدما تركها «الشحرور الأبيض» لغواية الرأسمال والفضوليين وأشباه المثقفين، الذين جرفهم تيار الأوهام الصغيرة. كأن مؤلف «مجنون الورد» لم يكن في هذه المدينة الوحش. وحتى عندما تسأل أصدقاءه عما بقي منه، يشيح عنك الجواب بوجهه، كأنك تكلمت في موضوع لا يليق. أينك أيتها الأمكنة من شهرة كاتب لو كان على أرض غريبة لأقيمت له التماثيل؟
يكفي أن تطأ قدماك طنجة، لتظللك شجرة شكري الوارفة، فتراه ضاحكا في مطعم دوارادو مع زمرة من الأصدقاء، الضيوف أو العابرين، يتحدث عن طنجة حديث العارف بأحشاء امرأة أحبها، بجنون من أحرق كل سفنه لكي لا يعود إلى يابسة التفاهة اليومية.
فهو لا يوقف كلامه عنها إلا لينهر النادل الذي يحرك الكراسي بصخب. كان كاتب طنجة يكره هذا التشويش الأرضي، الذي يخدش نبل الأدب. لهذا السبب ترك مطعم دوارادو لشدة تعاركه مع نادلين جلفين لا يحترمان حضرة الكاتب وضيوفه، والتحق بفندق ومطعم ريتز، الذي كان صاحبه يعرف قيمة الكاتب الكبير، فخصص له مائدة هو وضيوفه لا يجلس اليها غيره، وكم مرة طرد أفواج السياح الإسبان الذين يثرثرون في المطعم كأنهم ينتقمون من القرون الرائعة التي قضاها المسلمون في الأندلس لتعليمهم قواعد التمدن والحضارة.
في ريتز، كان شكري يدير شؤون العالم، في أواخر حياته، بالكثير من الأناقة والحب. لكن في ما قبل كان يقوم بطقوسه اليومية: يمر إلى البريد ليتفقد أحوال الرسائل، لأنه كان يحب كتابة الرسائل كثيرا. وسبق له أن اشترى مثلا رسائل بول بولز، إذ وجدها بالصدفة تباع في سوق الخردوات بطنجة، ثم يعرج على البنك ليتفقد أحوال حقوق الترجمة، خصوصا بعد أن تكلف بأعماله الوكيل الألماني الذي له سمعة كالذهب روبيرتو دي هولاندا. فشكري رغم شهرته سقط كغيره من الكتاب في شرك ناشرين لصوص هضموا حقوقه بعقود عرقوبية. ولما تنتهي هذه الطقوس، يصل الرجل إلى ريتز الساعة 11 صباحا، ليبدأ يومه في استقبال الأصدقاء، الصحافيين أو بعض القراء. في هذه الأثناء تمر عليه فتحية، السيدة التي تتكلف بشؤون البيت. ينفحها نقود المشتريات ووجبة اليوم. أما إذا صادفت وجود ضيف عزيز عنده فيتفقان معا على نوع الأكل. وكان يسمي شكري هذه العملية «المؤامرة». ورغم أن شكري كان طباخا ماهرا، على الأقل في ما يتعلق بـ«طاجين الميرلان»، وهو سمك تعود المغاربة على أكله مقليا فقط أو طبق الملوخية بلحم الغنم، فإنه كان يفضل الاكل من يد فتحية. في الثانية زوالا يذهب إلى البيت يأكل ويستريح ليعود في الخامسة مساء، ويبقى في الريتز إلى حدود الحادية عشرة ليلا. عندها يرافقه أحد الأصدقاء إلى شقته حتى لا يتعرض لاعتداء من كتب عنهم في «الخبز الحافي» أو المنحرفين الذين قد تغريهم شهرته فيعتقدون أن له مال قارون في بيته المتواضع. وقد سبق له أن تجرع مرارة هذه الهجمات الليلة غير المنتظرة. فتسلح بسكين كان يحملها أينما ولى وبحراسة المقربين. كل هذه الحيوات المتمردة، التي ميزت ليل الكاتب كنستها ساعة الأيام التي تعطلت مباشرة بعيد رحيله. الريتز الآن إمحت يافطته حزنا على رجل لم يطرب أهل حيه، رغم أنه أنار طريق قراء العالم بملايين النسخ التي باعها من كتبه في مختلف أنحاء المعمورة. من يذكره الآن في طنجة مدينة الأنوار الخالدة؟ محاربة سباع النسيان كانت هي ديدن شكري قبل رحيله عن هذه الأرض الجحود، إذ حلم بمؤسسة تحمي اسمه وتراثه بعد موته. وتجسد الحلم حيا يرزق في التكريم الذي أقامه له فرع اتحاد كتاب المغرب بأصيلة سنة 2003، وحضره وزير الثقافة محمد الأشعري، وحسن نجمي رئيس اتحاد الكتاب آنذاك، وحسن أوريد. أناشيد من الصداقة والثقافة والذاكرة، تعرشت في تلك الأمسية لتدفع بالحلم في اتجاه الأحلام الواقعية التي يكفي أن تفتح عينيك لتجد نفسك في قلب الجنة.
لكن رياح «الخبز الحافي»، سارت بما تشتهيه سفن النسيان العربي الشهير. لا أحد سأل عن قمة شامخة ما زالت تكسوها شهرة مستحقة. فهل أكلت إرضة السياسي، الذي يزعجه كاتب ركل نفاق المجتمع المغربي وكتب بأظافره أعمق صفحات الأدب المغربي الحديث، واضعا لغة الضاد في مصاف اللغات الكونية. دم شكري في النهاية لن يضيع بين قبائل المحو. فهو حاضر بكلماته القوية كاللكمات رغم محاولات بيعه بالتقسيط. الرجل الذي حافظ بأرستقراطية ريفية على أنفته حتى في آخر لحظات المرض. ألم يكسر أخوه باب بيته المشمع بالأحمر وباع ذكرياته وأحذيته وكتبه وحقيبته اليدوية التي كانت لا تفارقه و... لمجمع ألماني. ها هو المال يفترس شجرة الأنساب الرمزية أيضا. ماذا فعلت القبائل المدججة بالأعراف التي لا تساوي جرة قلم من يد محمد شكري؟ لا شيء. فهل ذهب، في الأخير، شكري مع الريح؟
ضعوا أيديكم على قلوبكم وستعرفون الجواب.
مرحبا شكري...
المصدر/ الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد