أيام التصوير الضوئي: شهادات نسائية
هل كان اختيار النساء العراقيات صائباً تماماً، في الوقت الذي كان اختيار السوريات خائباً في معظمه؟ أم أنه افتراق جوهري في مزاج السرد؟ سؤال لا بدّ ستطرحه مخيلة من يحضر المعرض المشترك، والذي ضم أعمالاً للمجموعتين، ضمن أيام التصوير الضوئي في دمشق.
النساء السوريات عرضن ما يشبه «السير الذاتية»، وعبّرن بتوسيط الصورة، والتعليقات المرفقة بها، عن مكانة الدين في وجودهن. دارت ورشات عمل قال من أشرف عليها أن قصص السوريات «كانت مصبوغة بعمق تجربتهن الشخصية». ربما كنّ عشن تجارب عميقة، لكن التعبير عنها لم يكن على هذا العمق.
هناك صور قليلة جداً تلفت الانتباه. بمعنى القدرة على تكوين إنبعاث شعري من تنويعات التعليق والصورة، وهو ما يشكل روح تجربة السيرة أو الصورة. وجاءت التعليقات فجّة، ومحشورة في مكان لا تتسع، أو حتى تتحمله، عناصر الصورة.
يختلف الأمر جذرياً بالنسبة للمشاركات العراقيات. الورشة جاءت بهن إلى بيت دمشقي، أقمن فيه وتعلمن، بدعم من بعض المشاركات السوريات، تقنيات التصوير. لا وجود لأدنى مبالغة في توصيف من أشرف على الورشة، لمّا قال أن السير التصويرية التي «خلقتها» النساء العراقيات هي «شهادات نادرة وخارقة لحياة نساء المجتمع المدني العراقي». إذاً يستحق نتاج العراقيات أن يُحتفى به، ويجمعه معرض فردي، بمعزل عن تجربة السوريات، في ظروف عرض مثالية، لأنه فعلاً «أوبن شاتر» (كشف المستور، وهو عنوان المعرض). من الظلم القول أن التعليق، في مشاركات العراقيات، يأتي مرافقاً للصورة. هو حكاية أخرى بحد ذاته. والصور الشعرية، التي تحفل بها الكتابات، تتجاوز في ثقلها وجذبها الاهتمام، في معظم الأحيان، قيمة اللقطة. وسيكون أقرب إلى نقل روح التجربة القول إن الـ «فوتوغراف» شكّل خلفيات مصاحبة للصور الشعرية في القصاصات المركونة بجواره. ومن هنا بالضبط تأتي أهمية التجربة على اعتبارها أدّت المنشود منها.
أي سير تصويرية هذه، وأي عوالم شعرية كشفية فتحتها العراقيات! أتين من مناطق عراقية متنوعة، وقدمن أنفسهن بأسماء أسقطت ألقابها، أو بصفات حركية (لؤلؤة، سراب، الشموس، أم محمد...)، وإلى جوار الاسم يبرز العنوان الذي اخترنه لمشاركاتهن (الأمومة، خطف، المرارة، العزلة، الأرق...). وفي مقدمة كل مشاركة تطالعنا امرأة تقدّم لنفسها أولاً، وتالياً تخط سطوراً تعبّر عن سيرتها الذاتية. هي ليست كذلك بالمعنى التقليدي، بل هي فن في تكثيف أثر الذات، أو سيرتها، عبر ومضات تتخللها أحداث، وتشد أوصالها حالات شعرية صادمة، لحساسيتها الشديدة في الذهاب إلى جوهر ما تريد إطلاعنا عليه. أنطوانيت، التي كانت الأمومة عنوان مشاركتها، تكتب في سيرتها مستذكرة أيام الحصار الأميركي لبلدها: «كانت أياماً صعبة... كنا نراقب الأفواه. بعنا كل ما نملك. ذهبي، الأثاث... ثم ملابسنا». ومما جاء في فحوى «الإصرار» خطّت «الشموس» شارحة تجربتها، وزوجها الذي غادر العراق وهي تحمل مولودها الأول: «كان الوعد أن أتبعه بعد ولادة ابنتي. كنا قد اخترنا غزل اسماً لها، وعندما كسر كل وعد قطعه ولم يرسل حتى في طلبي... سميتها دانة».
وأما لؤلؤة، الطبيبة البيطرية التي عاشت مرارة الخطف، ومن بعدها مرارة اللوم من العائلة التي بدل أن تلاقيها بالحضن، بعد تحريرها ودفع الفدية، أشهرت في وجهها السؤال الأزلي عن الشرف ولم تسلم من مضاعفاته، مع تأكيدها أنها لم تتعرض للاغتصاب. تنهي حديثها بالتعليق: «كلما سمعنا أن إحداهن اختطفت يتوقف زوجي عن محادثتي لأيام. قال لي مراراً أنني حطمت حياته... وأخزيته».
القدرة على إعطاء معنى جمالياً لتفاصيل الذاكرة والحاضر، بما فيها الألم والقسوة والحنين، حضر في جميع السرديات. عادت أم محمد إلى البصرة بعد سقوط بغداد. لاحظت أن الغرباء في ازدياد، ويستخدمون اللغة الفارسية في أحاديثهم. فرضوا الملاءات السوداء على النساء. أفاقت أم محمد على رسالة مدسوسة من تحت باب بيتها: «توقفي عن عملك وارتدي أنت وابنتك الحجاب يا فاسقة». كُتب على الورقة. «كل ما استرعى انتباهي حينها هو الأخطاء الإملائية الكثيرة» !
ومن العلاقات اللافتة، التي استطاعت العراقيات، إقامتها بين الصورة والسرد، تطالعنا صورة لفسحة يحدها سور طويل يمتد عليه العلم العراقي. أما التعليق فيخبرنا عن حملة تجميل العراق التي أشرفت عليها الحكومة العراقية، ويكمل: «بدل إزالة الحواجز والأسلاك الشائكة... فوجئنا بالعلم العراقي مرسوماً على كل الحواجز».
ربما أفاد تجربة السير التصويرية العراقية، أن نظيرتها السورية سبقتها بأعوام عدة. وربما أن التصور حول المطلوب من المشاركين إنجازه، لجهة منحاه وطبيعته، صار أكثر نضوجاً لدى المنظمين (دَعَم الورشة المركز الثقافي الفرنسي و UNDP). ويتبادر إلى زاوية التلقي، أحياناً، أن هناك شاعراً كلّف الاستماع إلى النسوة، ومشاهدة ما صورنه، وأن من شأن ذلك وحده أن يتكفل بجعل الكتابات ناضحةً بهذه الطاقة الخلاقة. لكن في المقابل كان ظرف العرض، في خان أسعد باشا، ليس مثالياً للتلقي. أولاً ازدحم المكان بتجارب عدة، لمصورين آخرين. كان الزائر في حاجة، أمام زخم التجربة، إلى أفق أرحب للتركيز الطويل.
وسيم إبراهيم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد