أهمية دمج الفلسفة الإسلامية بتاريخ الفلسفة الغربية
في مقال «محاولات معاصرة لدمج الفلسفة الإسلامية بتاريخ الفلسفة الغربية»، الذي نُشر بتاريخ 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2015، تناولتُ الجهود التاريخية والمحاولات المعاصرة؛ لإعادة الاعتبار للفلسفة الإسلامية، والتي أسفرت عن ضرورة اعتبار الفلسفة الإسلامية حقبةً تاريخية فلسفية معترفاً بها في التاريخ العام للفلسفة، بحيث تتصل بما قبلها من فلسفة اليونان والسُريان، وتتصل بما بعدها من فلسفة اللاتين والأوروبيين. ولكن السؤال الذي يُطرح إزاء هذه المحاولات هو: ما الأهمّية الفلسفية لعملية الدمج هذه؟ بخاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن الترجمة من العربية إلى اللاتينية التي بدأت في القرن الـ13 الميلادي، لم تكن هي القناة الوحيدة لمعرفة اللاتين بالفلسفة اليونانية، وإنما تلتها عملية كشف عن المخطوطات اليونانية، والترجمة المباشرة من اليونانية إلى اللاتينية. في الحقيقة، هناك أسباب عدّة تجعل دمج حقبة الفلسفة الإسلامية بتاريخ الفلسفة الغربية أمراً ذا أهمية فلسفية وتاريخية بالغة.
أول دواعي أهمية عملية الدمج يُفهم بالنظر إلى اللغة المنقول بها التراث الفلسفي. في الحقيقة، تعدّ اللغة العربية أقدم لغة حُفظ بها التراث الفلسفي اليوناني مترجماً، مع بقاء المترجمات العربية حيّة حتّى الآن. فقد تُرجم التراث اليوناني إلى العربية كما هو معروف في الفترة من القرن الثاني الهجري وحتى الرابع الهجري، في ما اصطلح عليه بعصر النقل والترجمة. وقد كانت الترجمة من اليونانية إلى العربية مباشرة وأحياناً عبر وساطة اللغة السريانية على الأكثر، واللغة الفارسية القديمة على الأقل. وحين بدأت حركة الترجمة إلى اللاتينية، كان بعضها يتم من اليونانية مباشرة، وبعضها الآخر يتمّ عبر السريانية.
وعلى رغم الكشف عن أصول المخطوطات اليونانية، فإنّ اللغة اليونانية القديمة قد ماتت، ولم تعد لغة للحضارة والحياة والتواصل في العصر الحديث. وفي حين ماتت الفارسية القديمة والسريانية واللاتينية كذلك، ولم تعد هذه اللغات لغات تواصل؛ ظلت اللغة العربية لغةً حية حتى العصر الحديث. ولذا، فإنّ النصّ الذي ترجمه إسحاق بن حنين في القرن الثالث الهجري/ الألف الميلادي، سيمكننا قراءته باللغة ذاتها التي نتواصل بها في القرن الخامس عشر الهجري/ الحادي والعشرين الميلادي. وبالتالي يمكننا الوصل بما سبق من تراث قديم، ثم البناء الفلسفي المعاصر عليه.
وهذه الميزة كما هو ظاهر، ليست متوافرة في اللغات الأخرى التي حملت التراث اليوناني. فلم تعد اللغة السريانية، على سبيل المثال، لغة حية يمكن قراءة النصوص السريانية بها ثم البناء عليها، بل انعزلت هذه اللغة في قاعات الدرس يدرسها ويقرأ بها قلة مختصون فقط. ويتصل بهذا السبب كذلك نقطة أخرى، أشار إليها المحقق والعالم الكبير عبد الرحمن بدوي (1917-2002) في تحقيقه لمخطوط «الأخلاق» لأرسطوطاليس. حيث وجد أثناء عمله في التحقيق أن الترجمة العربية التي أنجزها إسحاق بن حنين (ت 298/910م) قد تمّت عن مخطوط أقدم من كل المخطوطات اليونانية الباقية لدينا حتى الآن. هذا يعني أن الترجمة العربية قد احتفظت بدقائق مخطوط يوناني فُقد ولم يعد له أثر. وهو ما يجعل الترجمة العربية القديمة للمخطوط اليوناني متفوقة على نظيراتها في اللغات الأوروبية.
الأهمية الثانية لدمج الفلسفة الإسلامية بتاريخ الفلسفة الغربية، تكمن في الوصول لفهم أفضل لعلاقات التأثير والتأثر بين الأفكار التي نمت في البيئة العربية، ثمّ انتقلت عبر الترجمة إلى البيئة الأوروبية أولاً في اللغة اللاتينية، ثمّ في اللغات الأوروبية الحديثة. وذلك من دون تضخيم ومبالغة ومن دون تقليل وتهوين من ناحية أخرى، من أهمية التأثير العربي في بدايات النهضة الأوروبية. على سبيل المثال، أثبت بحث معاصر أن الراهب الفرنسيسكاني جون دون سكوتس (ت 1308م) قد تأثرَ بأفكار ابن سينا (428 هـ/ 1037م) في مسألة “الإمكان». حتى إن سكوتس قد ذكر مثالاً معيناً لم يذكره سوى ابن سينا، ما يقطع بقراءة وتأثر الأول بالأخير.
إن دمج الفلسفة الإسلامية بتاريخ الفلسفة الغربية سيسهل الكشف عن كثير من علاقات التأثير والتأثر هذه، والكثير من الأمثلة الدّالة عليها، ووضعها في حجمها الصحيح. الفهم الأفضل لعلاقات التأثير والتأثر، سيقودنا إلى فهم أفضل كذلك إلى أيّ مدى يمكن عدّ حركة التنوير الأوروبية مدينةً للنصوص والأفكار المنقولة إليها من الحضارة العربية في أوج ازدهارها. أما الأهمية الثالثة والأخيرة، فهي فهم صيرورة الفلسفة الإسلامية بعد انتقالها إلى العالم اللاتيني. كيف تعامل اللاتين الأوروبيون مع نصوص وأفكار هذه الفلسفة وكيف كيّفوها مع واقعهم؟ وكيف تطورت أفكار العصر الوسيط، لتكون نواة لأفكار العصر الحديث؟ إن فهم تطور وصيرورة أفكار كانت جزءاً من الحضارة الإسلامية، ضروريّ لتصور كيف يمكننا التعامل في لحظتنا الزمنية الحاضرة مع الأفكار الفلسفية الواصلة إلينا من أوروبا الحديثة وأميركا المعاصرة، والاستفادة منها كمبدأ لدورة حضارية إسلامية عربية جديدة.
خديجة جعفر
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد