أنف الكتروني يشم.. الألم

د. عمار سليمان علي: ليس الأنف الالكتروني بالموضوع الجديد, فمن المعروف أن هذه التقنية تستخدم لدى بعض الدوائر المعنية بالشؤون الأمنية والعسكرية للتفتيش عن المواد المتفجرة, ولكن الجهاز الجديد يختلف عن ذلك كلياً فهو يستطيع أن يكتشف ويحدد إشارات الشدة التي تصدر عن نباتات تعرضت ـ أو هي على وشك التعرض ـ لهجوم أو لأذية. إنه إذن أنف الكتروني يسمع استغاثة النباتات وصراخها.. عبر شمها.
وبالفعل فقد بدأ العلماء باستخدام هذا الأنف الالكتروني الذي صمم ليسترق السمع إلى النباتات وهي تتعرض أو توشك أن تتعرض لأذى أو لهجوم, وهو يستطيع أن يميز بشكل ناجح بين إشارات الشدة المختلفة التي تصدرها النباتات بكل أنواعها, وتتوقف تلك الإشارات على نوعية الحشرات أو العوامل الأخرى المزعجة أو المؤذية. وهكذا على سبيل المثال يميز ذلك الأنف الالكتروني بين رائحة هجمة دودة التبغ المسماة توباكو هورن وورم a tobacco hornworm المدمرة للنبات, ورائحة الاعتداء الذي يقوم به ذرور العفن powdery mildew.
وقد ذكر فريق الباحثين الذين صمموا ذلك الأنف الالكتروني في مقالة لهم في مجلة العلم والتقنية البيئية Environmental Science & Technology  أنه "يمكن للأنف الالكتروني (e-nose ) أن يستخدم كأداة مفيدة في مراقبة الحشرات في البيوت الزجاجية الزراعية ذات الأغراض التجارية, مما يسمح للمزارعين بالتحكم بشكل أفضل بالحشرات المستهدفة ومكافحتها". ويقول نايجل بول Nigel Paul من جامعة لانكستر في بريطانيا وهو الذي قاد فريق البحث:"يستطيع هذا الأنف المصمم بإتقان أن يقلص إلى حد كبير مشاكل البراعم التي تؤرق المزارعين وتتعبهم, حيث أنه في الوقت الحالي يتوجب على الشخص الخبير في تحديد الحشرات ومكافحتها أن يذرع البيت الزجاجي ذهاباً وإياباً مشياً على الأقدام على أمل أن يكتشف بالعين المجردة فيما إذا كانت هناك إصابة أم لا, وإذا وجدت الإصابة أو الأذية فعليه أن يبحث عن المهاجم أو المسبب".
وإذا كانت تجارب سابقة قد صممت أنوفاً الكترونية (عبارة عن أدوات صغيرة قابلة للحمل والنقل) موجهة أو مدربة لكي تشتم رائحة الحليب الفاسد أو ورق الكتب الملوث بالعفن, فإن هذا الأنف الالكتروني هو أول أنف يصمم لكي يشتم المكونات الطيارة, أو سريعة التبخر, التي تصنعها النباتات, والتي لم يكن من الممكن اكتشافها وتحليلها سابقاً إلا بطريقة تقليدية معقدة ومكلفة هي طريقة الكروماتوغرافي, وهي طريقة باهظة الثمن وتستغرق وقتاً طويلاً كما تتطلب أدوات كبيرة الحجم ومحللين مهرة وذوي خبرة. أما تقنية الأنف الالكتروني فهي عبارة عن اختبار لطيف وسريع وسلبي Dirty Test بحيث أنه بمجرد توجيهه وتدريبه فهو يستطيع أن يتعرف على الآثار النوعية الدالة على الاستجابات النباتية تجاه حشرات معينة. وهكذا فالأنف الالكتروني التجاري الذي صممه فريق الباحثين بقيادة بول خضع لعدد من التعديلات بحيث يستطيع أن يحدد المواد المتطايرة الصادرة عن نباتات الخيار والبندورة (الطماطم) والفلفل, وذلك بالاعتماد على نظام خاص مكون من مجسات (أجهزة إحساس) بوليميرية تتفاعل مع المكونات الطيارة التي يتم تجميعها من حوالي الأوراق المتأذية التي ما تزال على النبات, ويسبب هذا التفاعل بين المواد الطيارة والمجسات تغيراً في المقاومة الكهربائية التي يجري تحليلها بواسطة برنامج كمبيوتري نوعي مجهز لهذه الغاية. وقد استطاع ذلك الأنف الالكتروني المجهز بثلاثة عشر مجساً أن يفرق بين المواد الطيارة التي تصدرها أوراق الخيار المتأذية بواسطة مثقب ( بما يشبه التقليم أو الجز) وتلك المواد التي تصدرها الأوراق المتأذية بسوس العناكب. كما استطاع الأنف الالكتروني أن يميز أذية أوراق البندورة (الطماطم) الناتجة عن دودة هورن وورم, عن الأذية التي يسببها ذرور العفن, وكذلك عن الأذية المحدثة بواسطة المثقب. ويعترف بول بأنه كانت هناك أخطاء طفيفة نتجت عن وجود نوع من التداخل بين المواد الصادرة عن الأوراق المتأذية ميكانيكياً وتلك الصادرة عن النباتات المصابة بالحشرات, ولكن هذا برأيه "لن يستلزم أكثر من تعديل بسيط جداً ليتم تجاوزه تماماً".
وبشكل عام لقي الجهاز الجديد ترحيباً واسعاً من قبل علماء البيولوجيا الذين اعتبروه "أمراً جيداً جداً" على حد تعبير ناتاليا دوداريڤا  Natalia Dudareva  عالمة الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية في جامعة بوردو في لافييت الغربية في ولاية إنديانا الأمريكية, وهي تعتقد "أن هذا الأنف الالكتروني قد يكون مفيداً جداً في التجارب, حيث يمكن أن يعطي إشارات سريعة عن وجود أو غياب مكونات نباتية معينة. ومع مزيد من البحوث والتجارب المتكررة يمكن أن يعدل ذلك الأنف بحيث يوجه نحو طيف واسع من العطور الطيارة, مثل رائحة الفواكه الناضجة بشكل كامل أوروائح الأزهار الرائجة بين الناس". ومما يذكر هنا أن العلماء قد وصفوا حوالي 1700 نوع من المركبات المتطايرة التي تصنع من قبل نباتات مختلفة, كآلية تواصل ذكية لكائنات حية لا تستطيع التحرك والانتقال من جهة ولا تمتلك أفواهاً لتتكلم بها من جهة أخرى. ويعتقد أن "نداء الغزل" الذي تصدره الأزهار التي تحاول جذب غبار الطلع بما يحتويه من ملقحات قد يكون عبارة عن عطر مكون من حوالي مائة من هذه المركبات المتطايرة. تماماً كما أن النباتات تصدر المواد الطيارة عندما تتعرض لشدة ما, بما في ذلك الشدة الناجمة عن هتافات التشجيع الصاخبة في سباقات السيارات (الرالي) التي يبدو أن بعضها يحرض على إنتاج مركبات دفاعية في النباتات القريبة, وبعضها الآخر قد يجذب أعداء من الحشرات الضارة التي تهاجم النباتات وتؤذيها. أي إن تلك الهتافات ـ حسب دوداريڤا ـ يمكن أن تؤثر بطرق مختلفة تتراوح بين حس الإثارة والشعور بالخوف. ويفترض بالأنف الالكتروني الجديد أن يخبرنا عن نوعية شعور النباتات وإحساسها وألمها!.