أنسي الحاج: هــــــذا المقــــــال
هذا المقال لا يشمل رجال الفعل بل يقتصر على رُعاة الأحلام. المقاتلون والفدائيّون لا يدخلون هنا. الكلام هو عن الذين يشعرون بأن جرائم الحروب التي توالت على لبنان، وقبله وبعده على فلسطين والسودان والعراق (حتى لا نذكر إلا هذه المساحة)، لا تزال تطلب ما يوازيها من الثأر... إذا استطاع الألم لدى أهل الأحلام أن يفعل غير الحَفْر في وادي الروح.
رغبة في القتل، تلك إحدى قمم الإحساس بالظلم، أمّا سواها من القمم فالاستسلام أو الانهيار أو التواطؤ. كيف تنشأ؟ مع افتضاح عجز الكلام خصوصاً والمواقف المسالمة عموماً. ومع انكشاف الفرق بين آلات هائلة تطحن الأجسام والعقول ومقالات لا يقرأها غير الألطف منها. وتزداد شهوة القتل هذه عندما يعاين المعنيّ جبن الشهود وغباء الضحايا، إذ يتعامى الأوّلون عن تسمية القاتل ويتوه الآخرون بين حبال مشاكلهم الأهليّة.
ولا تزال شعوبنا تتخبّط في البحث عن هويّة القَتَلة، وحتى إذا تثبّتت بعض الشيء من بعض الهويّات لا تستطيع أن تردّ الفعل إلا بمزيدٍ من نحر الذات، فالآلة الطاحنة ليست مجرّد وحش مفترس بل هي قبل ذلك عاِلمٌ عبقريّ خبير في تفتيت النفوس قبل تفتيت الدول والمجتمعات، بل كشرط أوّلي لتفتيت الدول والمجتمعات.
ويبقى العاجز المكبوت مشلولاً عن الحركة مكبوتاً على نيّاته نائماً فوق دموعه، مشتهياً كالطفل أن يقتل «كلّ هؤلاء»، من البوليس السرّي إلى البوليس الإمبراطور، وعملاءهم، وأن يُفظّع في أجسادهم كما فظّعوا في ثوانيه وأعوامه وعظامه ونخاع مُخّه. وأن يقتل نفسه حيث ظنّها أفضل منهم، وما هي بأفضل والدليل سقوطه في النيّة، وما هو بأشجع والدليل انكفاؤه على ما هو دون الدونكيشوتيّة.
شعب من الحالمين بالثأر، بالتعذيب، بالسَّحْل. العين بالعيون والسنّ بالأسنان والأعصاب والأطراف والأعضاء. وكلّما قصّر الفعل تمادى الحلم.
جمهورٌ مقهور يجترّ عجزه منذ أجيال، ينتقم من زوجة هنا وولد هناك، من مرؤوس هنا ومن الذات، من الذات خصوصاً وبكل انعكاساتها، هناك.
مَن يعوّض على هؤلاء المبتوري الروح، المصدوري الإرادة؟ ما الذي سيرمّم نفوسهم المعطوبة؟ وهل مَن يعترف أصلاً بوجودهم؟ ومتى كان العربي يحفل بذاته حتى يحفل بذات سواه؟ ومتى كانت الضحيّة العربيّة تدرك معنى كونها ضحيّة؟ 1300 قتيل وخمسة آلاف جريح فلسطيني في حرب غزة، مقابل بضعة قتلى (8؟ 10؟) في الجانب الإسرائيلي، ونصيح: «انتصرنا!»، وكيف تكون الهزيمة؟ على الأقلّ عبد الناصر سمّاها في حزيران 1967 «نكسة»، خفّفها ولم يُزوِّر، خفَّفها، ومع هذا قامت عليه القيامة وضحك الشامتون ملء المحيط والخليج. «انتصرنا»؟ «صمدنا»؟ حين يكلّف الصمود ألوف القتلى والجرحى من المدنيّين وبضعة قتلى في صفوف العدوّ، فهذا تضحية بالأبرياء لا صمود. أو هو صمود حكم على حساب شعب. هل يعرف شهوانيّو السلطة في العالم العربي أن محكوميهم أبرياء؟ هل تعني لهم هذه الكلمة شيئاً؟ حين يقرّر الحكام أن لا قيمة لحياة شعوبهم يستطيعون «الصمود» إلى الأبد.
وهذا ما هو حاصل منذ ستينات القرن العشرين. الأبرياء يواصلون تسديد الفواتير، والممسكون بالزمام ممسكون بالخناق يتباهون كالطواويس ويمشون على الجماجم. والضحايا، إذا تُركَتْ لهم مساحةُ حلم بين الهدنة والهدنة، بالكاد يستطيعون أن يُدخّنوا نحو القمر، فكيف يحلمون حتّى بثأرٍ جهيض وقد تكسّرت أجنحة أرواحهم أمام عيونهم!؟
مَن يعوّض، أيّ عدوّ، على الذين سُرقت أعمارهم وخُطفت أرواح أحبّائهم؟ على الذين اختلّوا؟ على الذين لم تعد حياتهم تختلف عمّا نراه في بعض الرسوم من صور الجحيم؟ وكيف تعرف أن جاركَ أو جليسكَ في المقهى ليس واحداً من قنّاصة الشرقية أو الغربيّة؟ هل تذكر الشرقيّة والغربيّة؟ وصبرا وشاتيلا؟ وحرب الجبل؟ وحرب السنتين؟ وحرب السنتين التاليتين للسنتين؟ وحروب السنوات التالية للسنوات؟ والسيّارات الملغومة؟ والحواجز؟ والمتحف؟ وبرج المرّ؟ وبرج رزق؟ القنّاصة، هل تذكر؟ كيف تعرف أن والد صاحبك لم يكن واحداً من جزّاري السطوح؟ أين كان القنّاصة يتوارون بعد «العمل»؟ لماذا لم يَقتل أهلُ ضحيّةٍ أحداً من هؤلاء؟ ولماذا لم يَقْتلهم، على افتراض قُتل أحد منهم، لماذا لم يقتلهم إلا الأشدّ منهم إجراماً؟ أيُحْرَم البريء حتّى هذا؟ ولماذا قُتل مَن قُتل وشُوِّهَ مَن شُوِّه في فلسطين ولبنان والسودان والعراق، مثلاً، ولم يقم أحد من شعوب هؤلاء بنقل القتل إلى أرض صانعي القَتَلة ومموّليهم ومدرّبيهم؟ كيف ما زال الأبرياء يتساقطون دون أن يتحالفوا لقتل أصحاب المعامل الحقيقيّة للقتل؟
لا يسري الغفران على المتلاعبين بالدم. لكنّه سرى. لأننا قبائل ينهب بعضها البعض وينهبها زعماؤها الذين يتلاعب بهم الغُزاة والطامعون من كلّ فجٍ عميق. كان أرسطو يقول إن البشر يسعون دوماً إلى الردّ على الشرّ بالشرّ، وإذا وجدوا أنفسهم في ظروف تُعييهم عن الثأر باتوا أو اعتبروا أنفسهم
عبيداً.
في الميثولوجيا الإغريقية، الآلهة أوّل مَن ينتقم. لا بدافع العدوانيّة وحدها بل أيضاً قياماً بواجب أخلاقي. المسيحيّة، بطوباويّاتها شبه المستحيلة، غفرت للعدوّ ودعت إلى محبّته. هذه الطوباوية هل تسري على أصحاب معامل القتل؟ لقد سَرَت ولكنْ لا بمحبّة مسيحيّة بل بالعجز وتفضيل السيّد المتلاعب على الشقيق الضحيّة. كأن الذين قتلونا لهم علينا ثارات بلا نهاية. وماذا تكون؟ ماذا تكون إلا حقد الذئب والثعلب على النعجة لأنهما ذئب وثعلب ولأنّها نعجة؟ ماذا تكون غير إشفاق النعجة على الذئب والثعلب لأنّهما يختلفان ويتوتّران حول مَن منهما سيبدأ بأكلها!؟
قد يَعْقب الندمُ الانتقام، فلندعه يعقبه. العدل ينتقم. الحقّ ينتقم. حتّى الرحمة، انظرْ فيها جيّداً، تنتقم. وحين أُهبطَ الإنسان إلى الفناء كان ذلك انتقاماً منه. ما من حساب يخلو من الثأر. القانون لا يشفي الغليل، لا يَشْعر، بروده منزوع الأحشاء. محلّ العيون يضع حروفاً ومحلّ النبض يضع الأرقام. الانتقام إلهيّ، نابعٌ من غابة الروحِ لا من آلة الحافظة.
وهكذا... قرّرنا الانتقام.
نحن الفلسطينيين واللبنانيين والسودانيين والعراقيين والأفارقة والأفغان وسائر الضحايا،
ولم يبقَ غير أن نعرف... ممَّن سننتقم؟
كلّما حدّدنا هدفاً دَحَضَتْه شكوكنا
وكلّما ذهبنا في اتجاه هَبَّ علينا وسواس وأخَذَنا في اتجاه آخر...
كلُّ شيءٍ صارخ ولا شيء واضح.
نحاول سؤال بعض مؤرّخي الحروب، فيأتي الجواب:
«لا تتعبوا. لن تعرفوا. لا أحد يعرف».
ـــ ولا محكمة دولية؟
ـــ هه!
ـــ ماذا تعني «هه»؟
ـــ اسألوا كينيدي...
... وافترضْ عَرَفْنا، وافترضْ سُلّحنا، وافترضْ جيءَ لنا بالمجرمين، وافترضْ أُوقفوا أمام حائط الإعدام، وافترضْ أننا صوَّبنا الرشاشات إلى صدورهم، فماذا يحمينا من الشفقة؟
ليست المعرفة ما نحتاج إليه بل القسوة. تكمن لنا الشفقة كما يكمن الغدر. ما إن نفتح أعيننا وما إن نغمضها.
حقدُنا حقدٌ متخاذل وهجمتنا مخنوقة في المهد.
شَرّنا شرّ مذعن، مبيّتٌ في أضغاث الطفولة. ملعونون تحت بركات السماء.
... والقَتْل في أذهاننا مستمرّ على بياض، داخل أسوار الذات، الذات المتطاير قهرها في كلمات، الكلمات المتبخّرة في صحرائها، الصحراء الأضيق من حبّة رمل، الرمل الراسف في الرمل، الرمل الطائر مع الريح، الريح الجارفةُ الكلماتِ مع الأوراقِ إلى الوادي، الوادي غطاء العالم الآخر، الآخر الذي ينتظرنا، يعرفنا ولا نعرفه، يتلاشى عنده المطر والشمس، تتحوّل العناصر، وينتهي الصدى...
الوادي آخر الطريق، لا عين بعين ولا سنّ بسنّ. هنا تغور الينابيع، وتتذكّر الجفونُ قبل أن تُوارَى، أنَّ الذي ضَرَبَ ضَرَب والذي ضُرِب ضُرب والذي ظَنَّ أنه هرب لم يَهْرب بعيداً...
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد