أنسي الحاج في نضج التمرّد حتى الصفاء الإنشادي
قصيدة الشاعر اللبناني أنسي الحاج «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» التي صدرت عام 1975 مفتتحة في مساره مرحلة من الغنائية العالية ذات البعد النشيدي صدرت حديثاً في ترجمة فرنـــسية أنــجزها الشاعر العراقي عبدالقادر الجنابي والمترجمة ماري تريز هورتا عن دار أكت سود - سندياد (باريس) وشرق الكتب (لوريان دي ليفر) وأرفقت القصيدة الطويلة بقصائد أخرى مختارة من دواوين الشاعر.
وضم الديوان الكلمة التي كان كتبها المستشرق الفرنسي جاك بيرك عن القصيدة التي «يستجيب فيها بهاء المادة لجمال الكلمة». هنا عودة إلى هذه القصيدة.
< حين أصدر الشاعر أنسي الحاج «الرسولة بشَعرِها الطويل حتَّى الينابيع» عام 1975، كانت خامسة مجموعاته الشعرية منذ صدور «لن» عام 1960، وأعقبت، مباشرة، إصداره لإعادة صياغة ممسرحة لـ «نشيد الإنشاد» المنسوب إلى الملك سُليمان الذي سبق أن نوَّه به في مقدمة «لن» في كونه مرجعية مبكِّرة للنثر الشعري. من هنا، تمكن ملاحظة ظاهرتين في كتاب «الرسولة» الأولى: مغايرة واضحة لما أنجزه في مجموعاته الأربع السابقة، والثانية: أن جانباً من التأثيرات الأسلوبية والبنائية لـ «نشيد الإنشاد» بدا ظاهراً في «الرسولة» وعلى رغم أن تشكيكه في تقديمه لـ «النشيد» بأن يكون مَنْ كتبه مَلِكاً، ربما بفعل الرقَّة الفائضة للغة النشيد التي لا تتناسب مع جبروت الملوك، فإنَّ رُوح الملك سُليمان لن تغيب في قصيدة أنسي «ادَّعى مُلكاً وتحسَّسَ رأسَهُ فأين التاج؟/ ظنَّ هَزَمَها وما هَزَمَها بل تركَتْهُ يفرحُ بأوهامِهِ/ لأنَّهُ الضعيفُ ولأنَّها القويَّة».
ومع أن شكل النشيد لا ينجو غالباً من الترهُّل في قصيدة النثر، لكننا مع أنسي نقع على تقطير مُحكَم له، فقد خفَّف من الضجيج الزائد في «النشيد»، ألغى الكورس، وأزاح صوتَ المرأة، لمصلحة محاورة استبطانية وبوح مونودرامي. وبينما كان نشيد سليمان عبوراً من مرحلة الخطيئة قبل الوصول إلى التوبة، فإنَّ رسولة أنسي هي الوصول من الرفض والتمرُّد والقلق، إلى الطمأنينة والرقَّة والصفاء. ولأنَّهُ «قصة الوجه الآخر من التكوين» فهو منسابٌ بعذوبة الكينونة، وإذ يلتبس فيه التكوين مع الكينونة فلأنَّ المحبوب هو التباس آخر منذ اليوم السادس من التكوين، بين الأنيما والأنيموس المذكر/ المؤنث في فكرة النموذج البدئي والأصل المزدوج لدى يونغ: «كان ذكراً وأنثى واحداً بالحب» و: «أنا هي» وكذلك في هذا التوتر في صورة المرأة بين غريزية حواء وبتولية مريم حيث «جسد في شكلين» و «تسكتين كمريم العذراء فأطيعكِ وشَرِّي لخضوعِكِ يخْضَع».
سلطة المحبوب
وحين يصدِّر القصيدة بتوقيع يشبه الإهداء: «مغلوبك» ويعقبه بنبرة ابتهال وصلاة «ساعدني ليكنْ فيَّ جميعُ الشعراء لأنَّ الوديعةَ أكبرُ من يدي» نرى كيف يتحوَّل هذا العجز في الاستهلال إلى إعجاز يرتقي مع نموِّ القصيدة، عندما يتحوَّل ذلك الشعور الإنساني إزاء قدرة المحبوب، وكثافة حضوره، إلى حافز لصياغة إعجازٍ جمالي. من هنا، يُمكننا تصوّر تلك التجربة العاصفة التي جعلت من هذا الإعجاز متفوقاً على العجز وينجح في هزيمته، ويحيل الانكسار إلى اقتدار في صياغة الأسطوري من العادي، واختزال الأنوثة والنساء جميعاً في امرأة بعينها: «أقولُ هي وأريدُ أنت/ أجمعهنَّ فيك لأنَّك المفردة/ ولا وجود لهنَّ إلا فيك» وهي: «الجرَّة التي تعدَّدَتْ وصارتْ ينابيع».
وإذ غاير أنسي نفسه، فهو تمرَّدَ كذلك على مقدِّمة «لن» بخروجه على القالب الفني الموصى به لقصيدة النثر، ليكتب قصيدة طويلة خارج الوصايا، خارج ذلك «الاقتصاد» في الحجم الذي تتطلبه قصيدة النثر ليكتب أنشـــودة وأية أنشودة، كأنما درس متقدِّم في البناء لقصيدة نثر طويلة، حيث براعة التكرار تغدو بلاغة صادمة ومتعددة الدلالة، في ذلك القَسَم الأخَّاذ، وهو يخرج من مجرَّد كونه قَسَم ولاء وخضوع وطاعة، ليتشكّل سوناتات باهرة من الاعتراف المضيء: «أُقسِمُ أنْ أكون فريســـةَ ظلّكِ/ أُقسِمُ أنْ أظلّ أشتهي أنْ أكون كتاباً مفتوحاً على ركبتيكِ/ أُقسِمُ كُلّما عثرتُ على قلبي بين السّطور أن أهتف:/ وَجَدْتُكِ! وَجَدْتُكِ!...». وحيث الجملة تهرب من نقصانها وتتطلَّعُ إلى اكتمالها في الجملة التي تليها في نموٍّ تفاعليٍّ، كما يتطلَّعُ الشاعر إلى اكتماله الذاتي عبر الحبيبة. إنه نموّ مركب فالجملة طويلة في تركيبها وفي الوقت نفسه عميقة في محتواها، والواقع أنَّ كلَّ جملة في القصيدة هي رعشة في ارتقاء البناء الروحي للقصيدة، وكل عبارة هي خلق عضوي في تشكيل جسد القصيدة، فتســتطيع أن تقول: هذه الجملة عين القصيدة، وتلك العبارة يدها، وهذه فمها، وهنا سرتها، وهناك شَعرُها... إنها قصيدة تجمع بين التأثير الخاطف والمشعّ بكثافة جماله لبيت القصيد في الشعر العربي، وبين الديباجة المنسوجة بعناية للوحدة العضوية للقصيدة، بين لمعان الشذرة، ومتانة النسيج العام، بمعنى أن كلَّ عبارة هي قصيدةٌ بذاتها، وهي خيطُ حريرٍ في ذلك الديباج الكامل في الوقت نفسه.
هذا الخلق المركَّب للقصيدة والمرأة معاً، هو ما يجعل المتعة مركَّبة كذلك: متعة كاتبها ومتعة قارئها، سحرية ممتدَّة عبر تلك المسافة من إعادة اكتشاف الذات والآخر معاً. وإذا يتحدّث أنسي منذ الاستهلال عن «قصة تكوين» فإنَّ تلك القصَّة تقدِّمُ متعة أخرى تستفيد من مأثورات العهد القديم في التكوين، ومن عذوبة العهد الجديد في الحب والمحبة، لتقدم عهداً جديداً ثالثاً هو مزيج من شعر التكوين والحبِّ.
بهذا، فإن «الرسولة» هي علامة فارقة في تحول نص شاعر «ماضي الأيام الآتية» بين عهدين من الكتابة. فهي عهد استعادة النموذج البدئي، ونضج التمرّد حدَّ الاكتمال والصفاء، لتغدو فاتحة لكتابة أخرى ستظهر لاحقاً في «خواتم» بما تحمله من دلالة مزدوجة حيث الختام: النهاية التي لا تنتهي، والخاتم: الأيقونة والشذرة والاكتمال الدائري، فقد صمت أنسي الحاج بعدها عشرين عاماً قبل أن يصدر ديوان «الوليمة».
مرايا الوجه
التوصيف الأقرب لكتاب «الرسولة» أنها قصيدة حبّ وليست غَزَلاً مأثوراً، لأنَّ الغَزَل المأثور هو نوع من المديح، لكن شِعر الحبّ خطاب اعتراف، الغَزَل يحيل القصيدة إلى مرآة تنعكس فيها مزايا المحبوب، ويتحوَّل معها الشاعر إلى حامل مرايا في وجه المحبوب، بينما في الحب يتحوَّل هو نفسه إلى مرآة مزدوجة البعد، إلى باحث عن تلك المرآة في جسد المحبوب، مرآة تبحث عن مرآة أخرى... وهكذا تتحوَّلُ اللغة لدى أنسي من حفلة مديحٍ وتشبيب بالآخر، إلى احتفاء استبطاني، إلى محاورة الذات عبر الآخر. من هنا، تلك الغيرة الآسرة والحرية المفتوحة تتناوبان على صوت الشاعر على امتداد القصيدة، مثلما يتطوَّح بين الاستئثار والإيثار: «الأرض أقصر من الغيرة» أو: «كم أفهمُ الآن شهوةَ الماء أنْ تذوبَ في المحيط، شهوةَ المملوك أنْ يُمْلَكَ أشَدَّ، شهوَةَ الغارقِ أنْ يغرقَ أعمقَ، وكم أفهمُ حَسرةَ الظلِّ أنه لا يقدرُ أنْ يصيرَ أكثرَ ظلاً!» من هنا، يمكن القول أنها أحدثت قطيعة بيّنة مع الإرث الرومنطيقي لشعر الحب، فليس ثمة مكابدة تقليدية أو إظهار مبالغ فيه للتذمر والشكوى من الحبيب وبؤس الحال، كما أنها في الوقت نفسه ليست تمجيداً للآخر على حساب نرجسية الذات، إن تلك النرجسية لا يتم اكتشافها إلا عبر المرأة - المرآة، إنه نزوع أن تتحقَّق تلك الصلة لا عبر مسافة من الرمز، إنما حدَّ الاتحاد والتماهي. قد نلمح هنا تأثيرات من الثقافة الأوروبية المسيحية، أعني تلك التراتيل الكنسية التي تتوجَّهُ إلى العذراء بوصفها أيقونة الحبّ، قبل أن تتسرَّب إلى الشعر البروفانسي على يد شعراء التروبادور، وعلى العموم فإن تلك التأثيرات ذات جذور مشرقية قديمة، وفي قصيدة أنسي الحاج تتلاقح التأثيرات لتخلق صفاء وهوية جديدة في قصيدة حديثة مؤسسة لعهد مختلف من شعر الحب في الثقافة العربية.
كان توفيق صايغ قدَّم في «القصيدة كاف» نموذجاً متقدماً في هذا السياق، إلا أنَّه بدا مازوشياً محتفياً بعذابه، ولكن ثمة في حب أنسي صفاء يقترب من لوعة التوحد، ذلك الجمر المشتعل في التماهي مع المطلق، لتغدو اللغة نوعاً من الوحي الصوفي ولتكتسب طاقة مضافة عبر هذا الإيغال في براعة الكونيَّ، طاقة ليس مصدرها البلاغة الذاتية للغة نفسها، إنما من ذلك المدّ السحريّ الذي يتقدَّم «فإذا الحجر فم للقُبلة». من هنا، فالمشهدية التي تتشكَّل فيها القصيدة، كما صورة المحبوبة، مخلوقة من تجانس سماوي أرضي، فتبدو المرأة كوكبانية مرة وبشريَّة مرَّة أخرى.
«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» قصيدة في تفكيك الخطيئة، وانتصار التوبة والغفران، فالقصة الأخرى للتكوين هي السلام في الكينونة الجديدة، بما بجعل من اللحظة الغرامية طمأنينة كونية تحلُّ محلَّ ميراث الإثم. فهو: «الشيطان الذي غلبته الرقَّة» وهي المرأة: «التي أندمُ إليها بضمائر جميع الرجال» وهي كنيسة التوبة لا من الخطيئة الشخصية وحدها، وإنما تطهُّر الجميع من الشعور المختزن بالإثم الموروث، وهي اكتشاف اليقين في الحب وحنين الناسوت إلى استعادة صورته المبدَّدة في تأويلات شتَّى: «حبُّكِ حيَّاني في الاضطراب واستقبَلَني في اليقين» وفي الوقت ذاته تغدو الحبيبة هي المطهر من جحيمية الآخرين، إنها تلك العزلة المحتشدة بالسلام، عزلة الاكتفاء والاستغناء والحرية: «تسهرين فيَّ كسجينة في البرج تضيئه بحريتها». وإذ تبدأ القصيدة بقصة أخرى عن التكوين فإنها تنتهي بدعوة عامَّة إلى وليمة الفناء في العشق: «الكنوزُ وحيدةٌ/ الأرضُ وحيدة/ الحياةُ وحيدة/ تعالَوا/ كلّلوا رؤوسكم بذَهَب الدخول/ وأحرقوا وراءكم/ أحرقوا وراءكم/ أحرقوا العالَمَ بشمس العودة».
محمد مظلوم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد