أنسي الحاج: مباركة لعنته
■«إلى متى» العاجزة
من عادة الأبرار المناجاة بصيغة التساؤل: إلى متى يا ربّ؟ من عادة الشعوب وغير الأبرار أيضاً. «إلى متى؟» تأوُّه الضعيف، المطيع. «إلى متى؟» تمرُّد مَن لا يريد أن يخرج عن طوره فيكتفي بهذا التوجّع. لكن مَن يسمعه ربّما يَتحرَّض به ليتمرّد. مَن يزرع الشكوى قد يحصده الإعصار.
إلى متى المَكْر والمُفاجَرَة؟ إلى متى اقتطاع الطوائف واختطاف المراكز؟ إلى متى يُعمَّم هذا الشعور بالعجز، ويؤصَّل؟ مجتمع أغنام مستسلمة؟ بلى، ولا عبرة في الأقليّة «الواعية»، فليست قادرة على وَقْف السيل، ولا على الاستبسال إلى أقصاه.
سلّحْ أيّوب الشاكي بعزم شمشون هل يظلّ مكتفياً بالنّق؟ رضي الله عنه لأنه كفر دون أن يكفر، ولكن مَن لشعبٍ ذي آلهة كثيرين ولا يُحْسن حتى أن يكفر؟
لا ينقص الفتيل إلّا مَن يشعله، ونظامُ الإشعال في أيدي «المحبّين». لا السكوت يَشفي ولا الانفجار. تعالوا ننام. أيّتها الخِراف المسكينة، نامي إلى غد.
وإنَّ غداً لنائمهِ بعيد.
■ الهواء الأصفر
يشبه الشعب طائفة من المرضى كلّما شخصوا إلى الأطباء آملين في تحسُّن حالهم كسر هؤلاء ظهورهم ببلاغات عن أمراض جديدة أصابتهم. المرض يعيل الزعماء ويبيد روح الشعب. الزعماء والممسكون بهم من الدول ليس لديهم غير تمزيق قلوب الناس لتغذية آلة التصارع. كلّما فتح الزعماء أفواههم خَرَجَ الهواء الأصفر.
■ كلّ شيءٍ جديد
لا تصدّقوا السّاسة المخرّبين، كلّ شيءٍ تحت الشمس جديد، كلّ يوم، لا تصدّقوا البوم والعقبان. ليقرّب كلّ واحدٍ منكم فمه إلى الندى، إلى الأغصان، ويُسْلِم نظره إلى مجاهل الصقيع والطريق، دعوا القلوب تَخْفق على رسْلها. الوطن الفقير لا يزال بيتاً دافئاً، وحُمّى الكلام ما هي إلّا حُمّى كلام. لذّة الحياة بحاجة فقط إلى صيّادين، صيّادين بسطاء، تصطادهم اللحظات الهنيئة وتُغويهم ولو ظنّوا أنهم هم صيّادوها. لا تصدّقوا ما يقال بل ما لا تسمعون ولا ترون.
■ إنسانٌ كامل
نعومة جلْدكِ تعوّض عن قسوة العالم. لا تدعي شروطكِ تُخشّن ملمسك.
الزمن أقسى منّا. نعومةُ جلْدكِ هي الرحمة. انظري كيف الطبيعة تشتهي مداعبتكِ. ثيابك لا تَستركِ بل تلوذ بكِ. تظلّ النعومة شريدةً حتّى تهتدي إلى البَشَرة. نعومة جلْدكِ هي ماء الماء. نعومة جلْدكِ مبرّر الجَسَد. نعومة جلْدكِ إنسانٌ كامل.
■ أبيضان
بين الصفحة البيضاء والفتاة «البيضاء». العذريتان. الرغبة في تسويد الأولى والرغبة في «تسويد» الثانية. «الخَلْق» على الأولى والخَلْق بالثانية. العجز أمام الأولى والعجز مع الثانية.
النقطة توقف الحياة في الجملة على الصفحة. مع المرأة تَصْنَعها. اللعب مع المرأة حدوده حدودك. اللعب مع الصفحة يفيض عن روحكَ.
■ إمعاناً
يا لعار مَن يَكتب ما سبق، وما سيلحق، متجاهلاً آلام الوضع العام! يا للخزي! يا لتخلُّف الوجدان! ما هذا، ما هذا.
إمعانٌ في الهرب بسرعة، جدّاً، وقد بات السياسيّون كلّما فتح أحدهم فمه زاد في تعميق اليأس. و«الإعلام» ليس أفضل. ألوفٌ مؤلّفة من الشعب العاثر الحظّ لو أُعطيتْ تأشيرات وامتلكتْ ما يقيها بعض ذلّ الهجرة لهربتْ، لا من حرب عسكريّة، بل من مذبحة القرف.
■ بين قوسين
نروّج للشعر كأنه خلاص. وهذا خطأ، ويزيد كراهية الكارهين له. يجب أن لا نُحبّب بالشعر وكأنه وصفة مضجرة، بل أن نعيشه بلا تظاهر ولا تعمُّد، إلّا ما لا مفرّ منه، كتنظيمٍ نرتئيه لبعض الفوضى.
الكلام على الشعر كحزب أو زعيم، قد يكشف حاجة إليه أو إعجاباً به، ولكنه يُري ابتعاداً عنه. واقعيّاً لا معنى للترويج في حقول الفنون. إننا هنا كما هم الولهانون في الوَلَه، تندلع الشرارة أو لا تندلع. التثقيف يُقمّش المستعدّ، ولا يخترق سترة «الأجنبي».
■ رغبةُ السرّ
ترغب النفس بقوّة في السرّ. «سرّ الزواج» تقول الكنيسة. وحين تلاشى سرّه راح يتخلخل. الشعوب تعشق السرّ، لا لأنّها تُحبّ ما لا تَفْهم بل لأنّها تأمل أن تَنْفد من التأمّل في الأسرار إلى فهم المصير البشري. الإنسان أوجد الأديان ليفكّ أَلغاز الوجود لا ليخافها. الخوف رَعَته المؤسسة لا الحاجة الإنسانيّة، لا الطبيعة الإنسانيّة. الإيمان هو ثقة بإمكان إقامة الحوار مع القوى الخفيّة وليس تسليماً بالعجز أمامها.
أحد مظاهر العظمة والمأساة الإنسانيتين، الشغفُ باكتشاف محرّكات الغوامض، بواعث الخوارق، أجسام المتخيَّلات. «بدنا نعرف سرّ الإشيا، معنى الإشيا، شو اللّي مخبّا، شو اللّي بها العتمي بيرفرف (...) بدنا نعرف لمّا منغفى مين اللّي بيوعا، وبيصير يدبّك بدعسي مَنَّشْ مسموعا، وهالطاحوني المدري وينا ومَنَّش مقشوعا، والتِهْدُر بالليل وتبكي وصوتا بيخوّف...» تقول الجوقة في رائعة «جسر القمر» للأخوين رحباني. والتجلّي، تجلّي الحقائق الهاربة، أكثر ما يتحقّق في الارتعاش الذي لا يوصف، لحظات الانخطاف، وعَبْر ما يخضّ الكيان من حالات الانسحاق والوَجْد والهَتْك والنشوات الطافحة
السيّالة.
ترغب النفس بقوّة في السرّ، وإنْ أدركَتْهُ استشعرتْ فوراً مكانه سرّاً جديداً. الفكر لا يوهنه لغز ولا يُشْبعه فكّ اللغز. ملعونٌ هو الإنسان لأنّه لا يستريح ومباركٌ هو لأنّ لعنته هي هذه.
■ عابرات
- مَن يعيش مع حلمٍ لا يحتاج أن يحلم.
- يعرف المسحور أنّه مسحور، مِنَ الأشياء كيف تَسْكت عند مروره.
- بعض العشّاق عرّابون للعشق أكثر ممّا هم شركاء: الذي يُعمِّد، ينبوع لا يرويه ماؤه بل ارتواء مَن أحبَّ عَطَشَهم.
- النظافة شهيّة لأن المقبل على صاحبتها سيشعر أن قلبه هو أيضاً نقيّ كالثلج.
- لا تَدْلُق لهفتك كلَّها لئلّا تُرْجِع حلمَ الحالم بك.
- أسواركِ تُغري لأنّ أبوابكِ كثيرة.
- لا أحد يحتاج إلى سبب كي يُحبّ. إذا نادى الجِلْدُ جلْداً فإنّما هي، تلك اللحظة، نواة الحياة تنادي نواة الحياة.
- كثرة أبوابكِ تُهوّس الرأس بكثرة احتمالاتك. راغبكِ يُجنّحه هَذَيانه. لا تُحبطي هذيان الراغب.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد