أم سورية تروي: قصة رحيل تتكرر بعد 32 عاماً
لا يمكن للمصادفة وحدها أن تكون وراء كل ذلك، تقول.
كما فقدت زوجها قبل 32 عاماً، تفقد ابنها الآن، في الزمان والمكان عينه .. وعلى يد الجهة ذاتها، تقول أم نورس.
وسط ما يُعرف في سورية بأحداث الثمانينيات، وفي 26 كانون الثاني عام 1985 تعرضت سيارة "زيل" عسكرية لهجوم شنه مسلحون "من الإخوان" في منطقة عدرا بدمشق، كانت الواحدة ظهراً.
نزيف حاد .. أبقى على كل ملامح الوجه، لكنه خطف روحاً أسلمها أبو نورس وكان في الثامنة والعشرين من عمره، بينما أصيب الآخرون، وكانوا نحو 14 جندياً.
بعد 32 عاماً وظهر يوم مماثل، وفي العاشر من الشهر ذاته، وفي منطقة عدرا .. فقدت ابنها الأصغر وكان في الثامنة والعشرين من عمره.
هو الوحيد بين أولادي الذي لم ير والده قط، تقول أم نورس، وتضيف بدموع لم تجف رغم مرور نحو ثلاث سنوات على رحيله: "قال لزميله .. سلم لي على أمي .. وراح".
تأخذ شهيقاً طويلاً تأمل أن يساعدها في الحديث أكثر عن ولدها، ثم تقول: "قالولي انو نايم، وعم يبتسم"، لا تحاول خلق تفاصيل التشابه بين ولد وزوج، لكن كثيراً منها كان كأنه يتكرر فعلاً، "كانت ملامح وجهه كما هي .. يعني متل ما راح أبوه"
رحلة من العذاب
أمضت أم نورس رحلة من الشقاء بعد استشهاد زوج، وفجأة صارت ابنه السادسة والعشرين أرملة، مع خمسة أطفال، كان أصغرهم بيان الذي لم يكن قد أكمل الشهر من عمره.
المصادفة أن بيان أعاد الزمن في حياة أسرة أم نورس 32 عاماً للوراء:
استشهد في ذات النقطة التي استهدف فيها والده، وبعمر 28 عاماً تماماً كما والده، وفي الساعة الواحدة من 10 كانون الثاني لعام 2014، فهو لم ير والده، لكن شاءات الأقدار أن يعيد تاريخه.
ترتدي أم نورس كما مئات آلاف أمهات الشهداء السوريات عقداً تتدلى في نهايته صورة الابن الشهيد، مشهد صار من علامات التأكيد على أن الشهيد هو الابن، تروي قصة حياتها بابتسامة أم على ملامحها كل علامات الوقار، لكنها لم تستطع كبح دموعها كما فعلت أكثر من مرة، وهي تكرر أكثر من مرة آخر ما وصلها مما قاله الابن على شكل وصية صغيرة للأم: "أمانة سلملي على أمي كتير". تصمت، ثم: "ياويلي ما أصعب هالحكي"
عندما رحل الزوج كان أكبر أولاد أم نورس دون سن المدرسة، لم تحصل على حقوق الشهيد التي كانت تُمنح في سورية لذوي الشهداء، ولا تعرف لماذا، تقول: في تلك الأيام لم أكن أعرف شيئاً، ولا أستطيع أن أتابع لأعرف مع أسرة تحتاج كل وقتي. لم تتمكن من وضع أولادها في مدارس أبناء الشهداء، بقي لها راتب صغير لا يكفي لتأمين حاجات أسرة بحجم أسرتها، عملت في الخياطة والتطريز، وتربية أطفال الموظفات، وعندما أصبح أبناؤها من المرحلة الإعدادية بدؤوا بمساعدتها.
تتحدث كثيراً عن جيرانها في منطقة الدحاديل بدمشق، الذين كانوا لها كما الأهل:
"كان أبو يحي من درعا، وأبو العبد "كسواني" أي من الكسوة، وهم من حمى أبناءها، من عمليات قتل كان يمارسها موتورون، طائفيون، مع بداية تأزم افي هذه الأحداث في سورية.
لكن الذين يمتلكون السلاح كانوا أقوى من الجيران الطيبين، ولم تجد سوى أن تترك كل شيء خلفها، وتترك البيت الذي بنته حجرة حجرة، وقرشاً قرشاً.
حين جاء ثلاثة رجال بسلاح "أبيض" (بلطات وسكاكين) وآخر أوتوماتيكي، وسألوا عن أولادها وخاصة الابن الأكبر، خرج أبو يحيى الدرعاوي ليبعدهم عن الدار، ويؤكد أن أحداً لن يمسهم إلا بعد أن يكون جثة، فذهبوا. لكن الحادثة كانت تقول إن الرحيل هو الأفضل.
الآن تسكن أم نورس في منطقة مخالفات، تشتاق لبيان، طبعاً، وهو الحاضر دوماً في صورة تتدلى على صدرها، لكنها لن تراه مجدداً. تعرف ذلك، فتحاول أن تستعيد ذكريات ما كان لهم يوماً، البيت، والجيران:
"رح تخلص هالحرب ونرجع"
يسرى ديب
المصدر: آسيا
إضافة تعليق جديد