«إذا تعب قاسيون» يمسك يد الماغوط في أيامه الأخيرة
«عندي احتياطيّ من الخوف لا ينضب». أتكون هذه الجملة لصاحب كتاب «سأخون وطني» هي التي صنعت قوام الشاعر الكاره العقلَ كما يقول عن ذاته؟ محمد الماغوط (1934– 2006) تربّع على أريكةٍ أيام مرضه في بيته في منطقة المزرعة - دمشق، ووصف حزن العالم النهائيّ تحت ضوء القمر أو في الظلام في الفيلم الوثائقي «إذا تعب قاسيون» (إنتاج 2005) إخراج هالة محمد، وأهم ما في الفيلم هو ترْك حديث الشخصية على سجيّته دون تدخّل تقني كبير، أو لعِب تجريبي.
صورت هالة محمد في فيلمها (47 د) مرحلة عن الماغوط تُراوِح بين الصحو والغفو، أو بين الشعر والواقع. يظهر صاحب رواية «الأرجوحة» منذ المشاهد الأولى بين أدويته، مع صوت قارئ القرآن، متحدثاً عن ظروف ليلة باردة قرّر فيها دخول الحزب القوميّ السوري من دون أن يقرأ مبادئه، فقط لأن هناك مدفأةً في مقره، الفتى الفقير (حبيس المهجع الرابع في سجن المزة لاحقاً عام 1955، والمقابل للمهجع الخامس حيث كان أدونيس) كانت لديّه حماسة للانتماء إلى الجماعة والأكثرية، ولا يصدّق المرء عندما يسمعه يقول إنه جعل الشرطة يُمثّلون في مشاهد قدّمها داخل السجن من مسرحية لـ «يوسف وهبي»، وها هي زوجته الشاعرة سنية صالح تلتحق به لليلة واحدة (تحت سقف السجن ذاته دون لقاء)، كيف تتحوّل الطريق العشوائية إلى شاعر، وأحلامه إلى حقيقة؟ اعتقد دائماً أن السجن للقتلة، ولم يصحُ إلا على خبر إعدام أنطون سعادة في إحدى الليالي، ثم عند نشْر قصيدة «القتل» التي هرّبها بين ثيابه الداخلية إلى العالم «ليصدح الخوف كالكروان»، وليكتب بعدها ديوانه الأول «حزن في ضوء القمر» (1959) نتاج بداية العلاقة بمدينة بيروت ويوسف الخال ومجلة «شعر».
الخوف شيء لا يُشرح
لحظات للماغوط وهو نائم، تعلو بتأثيرها على غيابه، ويسيطر صوت أنفاسه مع موسيقى مرسيل خليفة على بساطة الحدث (السرد الحياتي) ثم دراماتيكيته، ثم بساطته، هكذا أخذ الماغوط كل الأشياء سهلةً ثم عقّدها، تماماً كما شبّه الخوف بالشيء الذي لا يُشرَح أو السماء، ثم بـ «سياط، وكماشات، وأسنان مقلوعة، وعيون مفقوءة، تغطي العالم»، السجن عند الماغوط لم يكن إلا عبْر أثره، لأنه لم يقبع فيه سنوات، أمضى أشهراً قليلة فقط من العام 1955، وفي العام 1961 أمضى ثلاثة أشهر، كما أنه أصبح صديقاً لسجّانه لاحقاً (عندما شاهده بائعاً للحلويات).
لا يفكّ المهرّجون الكوميديون أو رسوم الكرتون لَغْزَ حزن العالم، كما يكثف الوثائقي ما يقوله هذا الرجل البطيء في مشيته على الأرض (لحظة تصوير الفيلم)، فهو يغفو كالطفل أمام الكاميرا بلا قلق، ويرسم ملامح كاتب «الفرح ليس مهنتي» (1970) من جديد، بطريقة عبثية، وبحدّة باقية من أيام اشتعاله، فهو لا يحبّ المواربة، فإما اللص أو الشرطي، وإما الشعر كشعر أو اللاشيء، هزم القافية لأنه انشغل، كما يقول، في أحد المشاهد بالبحث عن الطعام أو عن حذاء بدلاً من الوزن الشعري، ورفض بشدة نصيحة أحد اللغويين بعدم دخول «طالما» على الاسم، مجيباً إياه بأن هناك أناساً يدخلون السجون والمصحات العقلية... فما شأنك بطالما هذه؟ هذا الشاعر الذي لم يأبه يوماً للعالمية، دخل بهذه الطريقة باب الشعر، برؤية فردية.
يقصّ الماغوط كيف ترك الناشر رياض الريس يفكّ ألغاز روايته الوحيدة «الأرجوحة» بعدما أصرّ في طلبه منه نصوصاً لمجلّة «الناقد»، لتصدر الرواية بعد خمسة وعشرين عاماً من اختبائها تحت مخدّة أم الماغوط ببطليها «فهد التنبل» و»غيمة». ولم يتناول الفيلم مسرحَ الماغوط في «المهرج» أو «ضيعة تشرين» أو «غربة»... فقط تحدث ببضع جُمَل عن الملاحقة بعد «العصفور الأحدب»، وتعمّق في عفوية تصرفات شاعر يفرح على سبيل المثال بـ «بيجامات المنزل» وبمديح قديم من عاصي الرحباني لِما كان يرتديه في ستينات القرن الماضي.
«إذا تعب قاسيون» هو كقضاء يوم في بيت الماغوط، حديث ودود مع رجل أجش الصوت، مرح وحزين في الوقت ذاته، وهو يوحي بصورته الأخيرة لحظةَ مات وفي إحدى يديه عقب سيجارة، وفي الأخرى سماعة الهاتف، يوحي بخط حياته المتأرجح على حائط الحزن الكبير للعالم.
معطيات مقلوبة
عام 1955 والحزب القومي قلبا المعطيات للفتى الريفي وأخذاه من مدينة السلمية وأحلام الزواج بقريبة له (ابنة عم، ابنة خال) إلى الظلمة، فكان الهرب إلى بيروت، واللقاء بجماعة «شعر» (يوسف الخال، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا)... وسعيد عقل، والرحابنة. تغنّى الماغوط في الفيلم بحُبّ بيروت وعطائها، وبقي حتى لحظاته الأخيرة غير متصالح مع السلطة أينما كانت في العالم، ومتسامحاً مع الأشخاص فقط، ويرى أن «القمع هو الأم الرؤوم للشعر والإبداع»، مخالفاً رأي الكاتب المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس المريد للحرية.
الخوف «ثيمة» الإبداع الماغوطية، جعلت البورتريه الفيلمية عنه أشبهَ باللقاء مع فارس أسطوري كلما أمسك شيئاً أتى بنقيضه، كلما سعل تذكّر جدران السجن، عائشاً على ألم الماضي كأنه ألمٌ أبدي، مُتنبّئاً بأحداث العالم، وهو أحياناً يخرج عن شعريته ويُبدي عدم صبره المعروف في محاوراته، لكنه سرعان ما يلجم أنفاسه المتعَبة بحكمة، خاتماً الفيلم: «عجيب أن حياةً من سبعين سنة، يستطيع المرء تلخيصها بخمس دقائق».
رنا زيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد