«أبو حليمة»مسرحية من القدس من إخراج جاكوب آمو:المعاناة الساخرة
تشبه مونودراما «أبو حليمة»، التي يؤديها الممثل المقدسيّ النشأة والمولد اسماعيل دباغ عن قصة للأديب طه محمد علي بعنوان «ما يكون»، تشبه رسالة مطولة إلى الرئيس (الفلسطيني). مرافعة تبدأ بنكبة العام 1948، ولا تنتهي بأوسلو، والجدار الفاصل، ويوميات العيش المرّ تحت الاحتلال. إنها حكاية الفلسطيني أبو حليمة، الذي يروي ذكرياته مذ كان طفلاً في مخيمٍ في الشتات. وهو هنا ينقلب على نماذج درامية مألوفة، تتكئ عادة على قصص العشق، ولعله يسخر منها حين يقدم حكاية عشق لحذاء، حكاية ولد حافٍ في المخيم كل حلمه أن ينتعل حذاء، فيروح، بلا أمل، يغازل أحذيته المشتهاة في واجهات المحال التجارية. إلى أن يعثر لنفسه على حذاء رخيص، فيفاجأ به من فردتين متشابهتين. قصة أبو حليمة مع الحذاء هي خلاصة لمأساة اللجوء والتشرد الفلسطيني، وربما لذلك اختار الممثل حين ظهر على الخشبة، أن يظهر وقد علّق البسطار العسكري في عنقه، كما لو كان حذاء معبوداً. لكن لحكاية أبو حليمة مع الحذاء تتمة، حين يصير في صفوف الثورة الفلسطينية مسّاحاً لأحذية القادة والضباط.
يريد المحارب الفلسطيني القديم أبو حليمة أن يستعرض عبر حكايته الشخصية حكاية شعب برمته، ولا يلبث أن يحكي الفصل الخاص بما بعد أوسلو، حيث يكون من بين أفراد الفوج الأول من العائدين. يرى الحواجز والمستوطنات فيقول لبلاده إثر عودته الناقصة «ما أبعدك وأنا فيك». أما القدس فهي حكاية أخرى؛ يدخل أبو حليمة القدس متسللاً من دون تصريح تمنحه عادة قوات الاحتلال. يعيش في بلدتها القديمة. تلك نافذة يفتحها العرض لنطلّ على حال المدينة، التي تمثل هذا العام عاصمة للثقافة العربية. ولا نحسب أن العرض فعل ذلك بالمصادفة، لعله يرمي إلى فضح هذا البؤس في المدينة التي تشكل اليوم رمزاً للصراع، كما تشكل السيادة فوق أحيائها رمزاً للغلبة والنصر. في أحياء المدينة القديمة يعايش أبو حليمة أبناءها العرب من حشاشين ومخمورين، ويروح يندب أحوال التعليم والفساد الثقافي، والفلاحات الفلسطينيات اللواتي يبعن الخضار في باب العمود، اللواتي يواجهن الإهانة والضرب من دون أن يقدر الرجل على أن يفعل شيئاً. كل ذلك بالتجاور مع الحضور الكثيف لقوات الاحتلال، والحواجز والعزل ومحاولات التهويد.
- كل ذلك سيشكّل الموضوع الذي ينوي أبو حليمة أن يفاتح به الرئيس، وهذا يذكّر بالطبع بـ»التقرير»، الفيلم السينمائي الذي كتبه الراحل محمد الماغوط لدريد لحام. لقاء الرئيس سيكون أثناء حفل تكريميّ لقدامى المحاربين، وبالمناسبة يكشف أبو حليمة هنا أن هؤلاء المكرمين لا يستطيعون الحصول على رواتبهم.
يمضي الممثل دباغ معظم العرض بملابس داخلية شتوية، عري أقرب إلى البوح الذي يكتنف حكاية المحارب المتقاعد، وقبيل حفل التكريم يستلّ بدلته العسكرية القديمة من صندوق قديم، كما لو كانت فخره الوحيد، ويجهز نفسه للقاء الرئيس. غير أنه يختم باستعراض المفردات التي وصمت شعبه منذ بداية التشرد؛ من لاجئين ونازحين ومهجرين إلى.. ثم يمثل بيديه حركة بذيئة تصم أحوالهم الراهنة.
إن كل تلك الآلام ومرارة العيش والتشرد والعودة الناقصة تقال بنبرة تهكمية ساخرة، وفي الأساس يفتتح العرض بنشرة أخبار ساخرة تتحدث عن اجتياح للجيش الفلسطيني لناتانيا بعد قصف تعرضت له مدن فلسطينية بصواريخ «شاس واحد»، نسبة إلى المنظمة الصهيونية المتطرفة، وهي سخرية تحلم ضمناً بمشهد معاكس لما يجري اليوم من سيطرة للإسرائيليين وقصف لصواريخ المنظمات الفلسطينية.
«أبو حليمة»، وهي عرضت أخيراً في مدينتي طرطوس ودمشق، مسرحية تنتقد الذات (الفلسطينية) بقسوة شديدة، ولا تلتفت، في واحدة من مرات قليلة، إلى العالم. لا يظهر الفلسطينيّ هنا بطلاً خارقاً ومحارباً عنيداً، إنه هذا الكائن المخدوع والملوث بعار الهزيمة ورعبها، ومبتلى بفساد قيادته ومؤسساته ولامبالاة أبناء شعبه، وبذلك ينضم العرض المسرحي إلى موجة الإبداعات الفلسطينية التي تقوم على السخرية، لا على اللطم والبكاء أو نبرة الحرب المدوية. إنها قصة أخرى من «قصص تحت الاحتلال»، العرض الذي جاء من تحت الاحتلال وقدم في العديد من المدن العربية والأجنبية، وقد سبق لاسماعيل دباغ أن روى واحدة من قصص ذلك العرض، فيما اليوم ينفرد بحكايته وقصته الخاصة.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد